مطر بن سالم الريامي
في هذه الأيام النوفمبرية الرائعة حري بنا التحدث ولو بإيجاز عن ما تم في مجال الفكر التربوي وإنعكاسه على التعليم في ضوء رؤية عمان 20240 ببلادنا الحبيبة ، فقد تشكل الفكر التربوي في سلطنة عُمان نتاجًا لتراكم حضاري وثقافي طويل، أستمد جذوره من القيم الإسلامية والعربية الأصيلة، منفتحا في الوقت ذاته على معطيات العصر الحديث ومتطلبات التنمية المستدامة بتوليفة خاصة ميزته في كل وقت وحين ، وأعتبر الفكر التربوي الإنسان هو المحور الأساس لكل تنمية، وأن بناء العقول لا يقل أهمية عن بناء المؤسسات، و لم تكن هذه المؤسسات الحاضنة له مجرّد منظومات تعليمية تهدف إلى نقل المعارف، بل صانعة لرؤية إنسانية حضارية تنطلق من الإيمان بقدرة الإنسان العُماني على الفهم والنقد والمشاركة في صياغة مستقبلية ، و من هذا المنطلق اتجهت السياسة التعليمية بالسلطنة إلى تأصيل قيم التفكير النقدي والابتكار والتعلّم الذاتي ، وفي هذا السياق أكدت وزارة التربية والتعليم في استراتيجيتها الوطنية للتعليم (2018–2040) أن ” بناء الإنسان الواعي المفكر هو غاية التعليم ووسيلته” .
فقد شكّل التعليم منذ فجر النهضة العُمانية حجر الأساس لبناء الإنسان وركيزة أساسية لتنمية المجتمع، واعتبرت رؤية عمان 2040 الرافعة الفكرية لهذا المشروع الوطني الذي قاده جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه- واستمر في ترسيخه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله فمن خلال رؤية عُمان 2040 ، ومع انطلاقة هذه الرؤية أصبح دور التعليم أكثر عمقًا واتساعًا، إذ لم يعد التعليم مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة، بل أصبح منظومة فكرية متكاملة تهدف إلى تكوين الإنسان القادر على النقد والابتكار وصناعة المستقبل ، واعتبرت الرؤية أن التعليم هو المدخل الرئيس لإعداد جيلٍ يمتلك مهارات المستقبل وقدرات الإبداع والابتكار، وقيم المواطنة والمسؤولية مع منهج معرفي يقوم على تكامل المعرفة والمهارة والقيمة .
إن الفكر التربوي في سلطنة عُمان اليوم يعكس وعيًا متجددًا بدور الإنسان بوصفه محور التنمية ومحركها الأساسي ، فهو يؤمن أن بناء الانسان العماني المتكامل هو الأساس لتحقيق التنمية المستدامة التي تنشدها رؤية عمان 2040 ، كما يهدف هذا التوجه إلى تحويل التعليم من مجرد تلقين للمعرفة إلى عملية تعلم نشطة ومستمرة تعد المتعلم للحياة والعمل والمشاركة الفاعلة في بناء المجتمع ، لقد تأثر الفكر التربوي العُماني بالتحولات العالمية في مجال التربية، فكما دعا الفيلسوف الأمريكي جون ديوي إلى أن ” التربية ليست إعدادًا للحياة، بل هي الحياة نفسها” ، تبنّت المنظومة التعليمية في السلطنة فلسفة التعلم بالممارسة، والانفتاح على التجريب والبحث والتفكير الناقد، كما انسجمت مع دعوة المفكر البرازيلي باولو فريري إلى ” تحرير المتعلم من سلبية التلقي إلى فاعلية المشاركة”، وهي روح تتجلى في المناهج العُمانية مثلا ، من خلال تشجيع الطالب على المشاركة والتحليل وربط المعرفة بواقع الحياة ، وإلى جانب هذا البعد المعرفي حافظ الفكر التربوي العُماني على جذوره القيمية المستمدة من الهوية العُمانية الأصيلة ، فالتعليم في السلطنة سعى القائمون عليه إلى تحقيق توازن بين الأصالة والمعاصرة؛ بين القيم الإسلامية والوطنية من جهة، والانفتاح على العلوم والتقنيات الحديثة من جهة أخرى، لذلك فإن رؤية عُمان 2040 تنظر إلى التعليم بوصفه ” جسرًا بين الماضي والمستقبل” ، يحافظ على الهوية ويغذّي روح الإبداع ، ولم تغفل الرؤية المعلم صانع الأجيال حيث يُعدّ الاهتمام بإعداد المعلم محورًا أساسيًا في هذا الفكر، إذ إن تطوير التعليم لا يتحقق دون معلمٍ مبدعٍ يمتلك كفاءات مهنية عالية، ويؤمن برسالة التعليم في بناء الإنسان ، ولهذا ركزت الاستراتيجيات التربوية الحديثة على تأهيل القيادات التربوية و تمكينها بما يتماشى وهذه الرؤية .
ومع تسارع التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، أتجه الفكر التربوي العُماني إلى بناء نموذج جديد للتعليم يقوم على الابتكار والمعرفة، فقد أصبحت المدارس والجامعات فضاءات لتجريب الأفكار، لا مجرد قاعات للدروس، وأضحى الطالب محور العملية التعليمية، يمتلك حرية السؤال والتفكير والنقد ، وفي ضوء رؤية عمان 2040 اتجهت السياسات التعليمية إلى التحول من التعليم القائم على التلقين إلى التعليم القائم على الكفاءة والمهارة، حيث أصبح الهدف هو تمكين المتعلم من أدوات التفكير والتحليل والإبداع، وليس فقط من استيعاب المعلومة ، فالمناهج الدراسية باتت تركز على مهارات القرن الحادي والعشرين مثل التفكير النقدي، والتعاون، والتواصل، والابتكار، واستخدام التقنية الحديثة في التعلم ، كما تم تطوير بيئة التعلم لتصبح أكثر مرونة وشمولاً من خلال إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعليم المدمج والمنصات الرقمية التي تتيح فرص التعلم الذاتي لجميع الفئات .
يمكن القول ختاما أن الفكر التربوي العماني وهو يتقدم بثبات نحو ا فاق رؤية عمان 2040 يمتلك فرصة تاريخية لإعادة صياغة مستقبل الوطن عبر بناء انسان متعلم وواع قادر و ملهم .
