احمد بن علي الشيزاوي
لما كان الحديث عن السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – أعز الرجال وأنقى الرجال، في ذكرى مولده التي توافق الثامن عشر من نوفمبر، لا يستقيم أن يُحمل على مجرد استدعاء عاطفي لذكرى عابرة، ولا على أنه لون من ألوان الاحتفاء الوجداني المنفصل عن ميزان التاريخ، بل الحق أنه تقرير لمركز تاريخي مستقر مفاده أن هذا الرجل لم يكن حلقة عابرة في سلسلة الحكام، ولا صفحة يمكن للزمن أن يتجاوزها مع ما يتجاوزه من الأحداث.
وإنما كان نقطة ارتكاز ومنعطفا تأسيسيا أعاد للأمة العمانية وحدتها، وللدولة كيانها، وللنظام القانوني شرعيته المؤسسية، فانبثق في عهده مفهوم الدولة الحديثة التي تقوم على سلطان القانون لا على سطوة الأشخاص، وعلى المؤسسات المنظمة لا على الأعراف المتفرقة، دولة أُسِّست على العدالة الاجتماعية ونبذ الفئوية والتفرقة، فاستوى فيها المواطنون على مبدأ المساواة في الحق والواجب.
وإذ كان من الناس من يقف في تقييم التجربة عند ظاهر العمران من طريق مشيَّد أو مدرسة قائمة أو مستشفى مشيّد، فإن العبرة في التجربة القابوسية أنه لم يقف بالبناء عند الجدران ولا عند الطرق ولا عند المدارس، بل جعل من كل ذلك مظهرا لتحول أعمق، انتقالٍ إراديٍّ من مجتمع يبحث عن ظل الأمن إلى دولة يصبح فيها الأمن قاعدة مقررة لا مطلبا ملحا، ومن تباين في بنية المجتمع وتعدد في الولاءات الأولية إلى وحدة هوية تذوب فيها العصبيات، فاستقر في ضمير شعبه أن الهدوء قوة سياسية لا ضعف، وأن الحكمة أداة حكم لا ترفا فكريا، وأن الحلم لا يناقض الحزم بل يسبقه ويؤطره، وأن الإصلاح الحق لا يكون بالصدمة التي تكسر البنية وتمزق النسيج، بل بالتدرج الذي يحفظ اللحمة ويقود المجتمع من حال إلى حال دون قطيعة ولا اضطراب.
ومن يتدبر خطابه السياسي في مختلف المنعطفات يوقن أن الوحدة الوطنية لم تكن في عرفه شعارا مرفوعا عند الحاجة ثم يُطوى، وإنما كانت اختيارا واعيا عزز العدالة الاجتماعية على أسس من نبذ التمايز المذهبي والعرقي والقبلي، تأسيسا لعقد اجتماعي يقوم على تساوي المواطنين في الأصل والاعتبار أمام الدولة والقانون.
فغدا الانتماء إلى عمان هو القاسم الأعلى الذي تنحل دونه سائر الروابط الجزئية، وبذلك كان السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – سلطانا حاملا لرسالة خالدة، لا تُقاس بحدود مدة الحكم ولا تنقضي بغياب صاحبها جسدا، لأن أثره تكرس في نظام الدولة وبنيتها ومؤسساتها لا في ذاكرة الأشخاص وحدها.
ولما كان المنهج الذي سنّه أعز الرجال وأنقاهم في الحكم قائما على تغليب مصلحة الوطن والمواطن، وترسيخ دولة القانون والمؤسسات، ونبذ الفرقة والمذهبية والعصبية، فإن مقتضى الإنصاف أن يُقال إن هذا المنهج لم ينقطع، بل وجد امتداده الطبيعي في عهد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه، إذ استلهم أصوله وسار على نهجه، وأعلن ذلك صراحة في أول خطاب له عند توليه مقاليد الحكم، ملتزما استمرار المسار وثبات المبدأ ووحدة الرؤية، لتتحقق لتجربة عمان الحديثة صفة الاستمرارية التي تميز الدول الراسخة.
فإذا ختمنا القول في أعز الرجال وأنقاهم، فالواجب أن يكون الختام على قدر المبتدأ؛ فرحم الله السلطان قابوس بن سعيد فقد ترك إرثا لا يقف عند حدود المديح، بل يصلح أن يكون درسا لأمم تبحث عن بناء يعلو دون ضجيج، ونهضة تصنع هيبتها دون صراع، ودولة لا تحتاج إلى رفع الصوت حتى تثبت حضورها في محيطها، فسلام عليه ما بقيت عمان وطنا واحدا وإرادة جامعة ودولة قانون ومؤسسات.
ونسأل الله تعالى أن يمد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه بعونه وتوفيقه وسداده، وأن يؤيده بنصره، وأن يجري على يديه تمام البناء وكمال المسيرة ودوام العزة والاستقرار لهذا الوطن العزيز وشعبه الكريم.
