د.سعيد الكلباني
من الثابت لكل المشتغلين في علوم التقنية ونظم المعلومات أن المؤسسات اليوم قد دخلت طور التعامل الفعلي مع الذكاء الاصطناعي، ولم يعد الأمر ضربا من التوقع أو التنظير، وعلى نحو لا يدع مجالا للجدل فقد تباينت النظرة إلى هذه التقنية بين من قصرها على أنها أداة مساعدة، ومن وسعها حتى جعلها نظاما قائما بذاته، ومن خشي آثارها على الوظائف والميزانيات والأمن المؤسسي.
وكان في مقابل هؤلاء طائفة أقل عددا أوسع نظرا رأت في الذكاء الاصطناعي بوصلة جديدة تعاد بها صياغة التفكير المؤسسي والعلاقة بالبيانات وبالمستقبل، ولذلك كان من اللازم عرض الوقائع أولا ثم بيان الرأي الفني فيها.
لقد ثبت من تقرير لشركة ماكينزي للاستشارات صدر في مارس 2025 أن أكثر من 75 ٪ من المؤسسات في العالم قد أدخلت الذكاء الاصطناعي في وظيفة واحدة على الأقل، وذلك مؤداه أن التبني الشكلي للتقنية قد وقع فعلا، وأن الإدارات لم تعد تنكرها ولم تعد تؤخرها.
غير أنه لا ينال من ذلك ولا يضعفه ما أفاد به تقرير بحثي صادر في العام نفسه عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا من أن الشركات أنفقت ما بين 30 و40 مليار دولار على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ثم لم يتحقق العائد إلا في أقل القليل، إذ إن نحو 95 ٪ من المبادرات لم تفض إلى مردود مالي أو تشغيلي يوازي كلفة إدخالها، الأمر الذي يكشف أن وجود الأداة لم يلزم بوجود القيمة.
ويضاف إلى هاتين الواقعتين ما أظهرته بيانات مؤسسة إس آند بي جلوبال ماركت إنتليجنس من أن نسبة الشركات التي تخلت عن مبادرات الذكاء الاصطناعي ارتفعت إلى قرابة 42 ٪ في سنة 2025 بعد أن كانت لا تتجاوز 17 ٪ في سنة 2024 ، مما يدل على أن شطرا من هذا التبني كان استجابة لهبّة عالمية أو لضغط تنافسي لا لحاجة تشغيلية محققة.
إن هذه المؤشرات المتعاضدة تستجمع دلالات مفادها أن المشكلة لم تكن في وجود التقنية، ولا في قبول المؤسسات بها، وإنما منشأ الخلل هو موضع الوصل بين الأداة والنتيجة وفي الرؤية التي تضبط لماذا تُستخدم التقنية ولأي مدى تُترك لتعيد تشكيل القرار ومدى ربطه تشريعيا وفنيا بهيكلة العمل في المؤسسة.
ذلك أن بعض قراءات ماكينزي في 2025 بينت أن القادة في عدد غير قليل من المؤسسات لا يدرون على وجه الدقة مقدار ما يستخدمه الموظفون الذين يخضعون لإشرافهم لأدوات الذكاء الاصطناعي، وأن الاستعمال الفعلي لدى الموظفين أعلى بعدة مرات مما يتصوره المديرون، وفي هذا ما يكفي للدلالة على غياب التقييم الوظيفي الفعلي، وعلى غياب حقيقي لإدراك مهارات ومعارف المرؤوسين ومدى الاستفادة منها في دعم أداء الأعمال.
وإذ تستبين لنا الوقائع على هذا النحو، فإنه يقال على سند من القول إن أسباب النجاح والفشل في إدخال الذكاء الاصطناعي ليست سواء، بل هي دائرة على ثلاثة محاور:
أولها أن بعض المؤسسات أدخلت الأداة ولم تدخل معها الغاية، فاستقرت المشاريع في صورة تجارب متفرقة لم تتصل باستراتيجية عامة، يزيد معها الإنفاق ويغيب الأثر.
وثانيها أن التدريب وُجّه إلى الموظفين دون القادة، فصار في المؤسسة من يحسن الاستفادة من التقنية، وبالمقابل بقي من بيده القرار لا يرى لها لزوما، وقد يكون جزءا من دورة مقاومة التغيير، فيختل الميزان ويتأخر الاعتماد.
وثالثها أن البناء الهيكلي والإجرائي على صعيد التطوير والتنظيم لم يُهَيَّأ لاستقبال الذكاء الاصطناعي، فلم تُنشأ فرق استراتيجية تشرف على فرق تنفيذية، وهذه تترجم عمليا خطوات تنسق الأعمال بين الوحدات وتشدد الحوكمة، حتى لا تغدو التقنية غريبة في بيئة تقليدية.
ولا ينال من ذلك أن بعض المؤسسات قد قالت إنها انتقلت إلى العمل بالبيانات، لأن الانتقال الجاد لا يكون بقرار ولا بدورة، وإنما يكون بسير متدرج يمر عبر سبع مراحل عمل متلازمة اتفقت عليها التجربة الرصينة
أولها الاستراتيجية التي تضع الرؤية وأطر تنفيذها ومعايير قياسها، وثانيها تحديد مواضع التغيير حتى يُعرف سلفا أين سيظهر الأثر، وثالثها التنظيم المؤسسي الذي يربط جوانب التنظيم الهيكلي والتطوير والتنظيم الإداري بالاستراتيجية في ربط متسلسل بين مختلف المستويات الوظيفية والتقسيمات التنظيمية، ورابعها إعداد العنصر البشري بإكسابه المعرفة والمهارات والسلوك الوظيفي وغرس ثقافة تقبل التغيير، وخامسها الحوكمة التي تضبط السياسات والأخلاقيات والمخاطر، وسادسها البنية التقنية التي تقوم عليها النماذج وتكامل وربط الأنظمة، وسابعها إدارة البيانات لأنها العصب الذي لا يقوم بدونه ذكاء ولا تحليل.
فإذا تقرر ما سبق، تَعيَّن بيان متطلبات الوصول إلى النتيجة المرجوة من إدخال الذكاء الاصطناعي، حتى لا تُنفق فيه الأموال ثم يُقال إنه لم يُفد، وهذه المتطلبات أربعة:
1. أن يصدر التبني عن القيادة لا عن التقسيمات التنظيمية، لأن التغيير يمس القرار والمال والهيكل، وهذه كلها منوطة بالقمة لا بالقاعدة.
2. أن تُربط كل مبادرة بقيمة مادية أو تشغيلية محددة، فلا يُقبل مشروع لا يُظهر أين سيخفض الكلفة أو أين سيسرع الخدمة.
3. أن تُستكمل الأبعاد السبعة ولا يُؤخذ بعضها دون بعض، لأن الإخلال بواحد منها كفيل بإسقاط المشروع كله.
4. أن تُقسم رحلة التحول إلى ثلاث مراحل متتابعة: تأسيسية تُراجع فيها الموارد وتُثبت البيانات، ثم تشغيلية يُدمج فيها الذكاء الاصطناعي في العمليات الجارية، ثم تحويلية يصبح فيها الذكاء الاصطناعي جزءا من هوية المؤسسة واستراتيجيتها.
وعلى هدي هذه القواعد في إدارة المشاريع يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي ليس مشروعا تقنيا يُعهد به إلى أخصائي البرمجة، بل هو شأن مؤسسي كامل يُعاد معه ترتيب السلطة الإدارية وطريقة صناعة القرار، فمن ابتدأه من القمة وأدخله في الاستراتيجية وقرنه بالقيمة بلغ مقصوده، ومن ابتدأه من القاعدة أو تركه بغير غاية عاد عليه بما رأيناه في 95 ٪ من المبادرات التي لم تُجد.
