الكاتب : خالد محمد عبده
عرضت عائشة موماد في آخر محاضرة لها، في الندوة التي أقامتها مكتبة الإسكندرية لحضور مولانا جلال الدين الرومي في الغرب لجهود بعض الأعلام، من المهتمين بأدبيات الرومي في فرنسا وألمانيا والسويد وغيرها من بلدان أوروبا، لفت نظري أن كل من أتت على ذكرهم من أولئك الأعلام تحدّث عن الرومي المسلم بشكل إيجابي، وعن التصوف باعتباره أرقى صور الروحانية، التي تعبر عن حقيقة الإسلام كدين في صورة إنسانية مشرقة. فجوزيف فون هامر-پورگشتال Joseph von Hammer-Purgstall يؤسس مجلة لنشر “الكنوز الشرقية” ويكتبُ على غلافها: “ولله المشرق والمغرب”. وواحد من أهل السويد يترجم أكثر من خمسة وثلاثين مجلدًا من كتب الأدب الفارسي ، فقد كان Axel Eric Hermlin صاحب الفضل في تقديم الرومي إلى الشعب السويدي. كما ترجم العديد من أدبيات التصوف الفارسي، مثل: گلشن راز لمحمود الشبستري وحديقة الحقيقة لسنائي ومنطق الطير وتذكرة الأولياء لفريد الدين العطار … كان الغرض من تلك الترجمات -كما يقول- هو تحريك تلك الروح الجامدة، إذ أن هذه الأعمال الصوفية تجعل الإنسان أكثر إنسانية، وبقراءتها نُضفي بعضاً من الموسيقى على الأشياء وشيئاً من اللمعان على الواقع.
هؤلاء الأعلام وغيرهم ممن ساهموا في مد جسور التواصل بين الغرب والشرق، وتطوير معرفة الغرب بالإسلام، يضرب بهم المثل على الانفتاح والتسامح والإنصاف الغربي للإسلام والمسلمين، فترى جزءًا من كلماتهم مقتبسة، يستشهد بها في الكتابات الإسلامية، بل وأحيانًا تصنف الكتب في موضوع الإنصاف والشهادات الغربية، فعل ذلك غير واحد من مؤلفي اليوم الذين حازوا شهرة في الوسط العربي، من أمثال المفكر الإسلامي محمد عمارة. لكن هل يمكنُ أن يكون موقفنا من الغرب على هذا النحو المنصف؟ هل يمكن أن يكون موقفنا مع الآخر المسيحي الشريك في الوطن على هذه الصورة؟ أيُّ أثرٍ يحدثه في النفس ذِكرُ كاتب مسلم لأقوال قديس مسيحي أو تكراره لعدة أقوال منقولة من التوراة والإنجيل في مقالة أو عظة يتلوها؟ هل ينظر المسلم إلى هذا السلوك بعين الرضا كما ينظر إلى سلوك الغربي؟
مشهدٌ من سيرة جلال الدين الرومي
هناك مواقف في التراث الإسلامي، والصوفي على نحو خاص، يجدر بنا إظهارها للقارئ المسلم اليوم، كونها معبّرة عن قيم إنسانية أصبحت نادرة الحضور في أنماط التدين المنتشرة في بلداننا الإسلامية والعربية، ومن ذلك ما يرويه شمس الدين الأفلاكي في كتابه مناقب العارفين من أن راهبًا من القسطنطينية حلّ بمدينة قونية، فصادف جلال الدين في الطريق. انحنى ثلاث مرّات تحية لمولانا جلال الدين واجتهادًا في إكرامه، ولكنه كلما رفع رأسه وجد مولانا مطاطئ الرأس مبالغة في الترحيب به وتعبيرا عن توقيره.
وحكى الأفلاكي أيضا أن مولانا لقي قصّابًا أرمنيًّا في الطريق فحنى رأسه سبع مرات إكرامًا لذلك القصّاب. وذكر عبد الباقي كولبينارلي الذي تُرجم عمله عن المولوية بعد الرومي في مصر قبل سنوات أنه كان للرومي أصدقاء من الرهبان المسيحيين، وكان له أيضًا صداقة مع راهب “دير أفلاطون” قرب مدينة قونية، وكان يزوره في بعض الليالي، ويقضي الليل معه هناك.
لذلك لا نجد من الغريب أن يقول المسيحيين واليهود في جنازة مولانا –كما روى كتّاب تاريخه وسيرته-: إن كنتم تؤمنون أن مولانا هو محمّد زماننا، كذلك نعتقد نحن أنه موسى وعيسى زماننا، ومثلما أنتم أحباؤه الصادقون، نحن أيضًا، وأكثر ألف مرّة، مواليه ومريدوه. ألم يقل الرومي: اثنتان وسبعون ملّة ستسمع منا، أسرارها. ونحن مثل الناي الذي هو، في صورة واحدة، مؤلف لمئتي دين!
هل هذا نموذج فريد في التراث أم أنه تعبير عن روح الإسلام؟
في مدونات السيرة وتاريخ الإسلام مواد جيدة كثيرة، يمكن الاستفادة منها والبناء عليها وتطويرها، ويمكن من خلال ذلك أن يردد المنتمي إلى هذه المبادئ صلاحية الدين لزمان غير زمان إرساله.. نقرأ في السّير أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حال التمكين والقوة في بلده سمح بإقامة شعائر الصلاة لوفد مسيحي كان يحاوره في المسجد( 1) .. ورغم أن النبي يُتّبع في كافة التقاليد الشخصية والظاهرية من جمهور كبير من المسلمين، إلا أنه لا يمكن اليوم أن نتحدث عن صلاة غير إسلامية في مسجد، رغم كثرة المساجد وصحبة المسلم للمسيحي وجواره!
نقرأ في التاريخ عن مسلم بعد عصر الصحابة يجدد الاهتمام بالتوراة والانجيل تدبرا وقراءة ومدارسة، حتى يتمكن من فهم ما تحويه من تعاليم، ثم يصبح هذا المسلم مرجعية في شرح التعاليم الدينية لأهل الاديان التي يخالفها ويرى كفر بعض معتنقيها.. هناك أيضًا مؤلف مسلم إسماعيلي أراد أن يدافع عن ثبوت فكرة النبوة التي شاع إنكارها في وقت مبكر في تاريخ الإسلام، تأثرًا بالفلسفة أو بمقولات المذاهب والأديان الأخرى، قدّم أبو حاتم الرازي في كتابه أعلام النبوة نقدًا نادرًا لمقولات ابن الريوندي الملحد أو لمقولات البراهمة التي نُسبت إليه، لكن الكتاب لم يقتصر على الرد على منكر النبوات بل قدّم صورة للإنجيل والتوراة ندر أن نقرأها لمسلم اليوم، إذ فسّر كلمات السيد المسيح بشكل روحاني يقارب تفسير الصوفية للقرآن، ولم يك ذلك في هذا الكتاب فحسب انتصارًا للنبوة ودفاعًا عنها، بل إن المتصفح لمؤلفاته الأخرى يجد صورة للمسيح ولأمه مريم تختلف عما ألفناه في المرويات السنية.
هذا الموقف يجعلنا نثق في رواية ابن خلكان في وفيات الأعيان، التي يحكي فيها عن مسلم كان أهل الذّمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، ويشرح لهم ما غمض عليهم فهمه، كذلك مثل هذا الموقف لا يجعلنا ندهش حين نقرأ اهتمام أهل الهند من المسلمين بالتوراة والإنجيل واعتماد بعضهم عليها في تفسير القرآن كالسيد أحمد خان الذي وصفته العلاّمة أنّا ماري شيمل بأول مسلم يفعل ذلك.
لا يمكن أن نظفر في العصر الحديث بنموذج هذا المسلم القارئ من باب المعرفة والاقتراب، وإن تجددت قراءة الكتاب المقدس فإن القراءة تكون بعين العدو لا الشريك أو المتعلم. نقرأ أن النبي جاء رحمة للعالمين لكننا لا نتوجه بخطابنا إلا للمسلمين!
نموذج لتعامل المسلم مع نظيره في الديانة
في كلمته التي ألقاها محمد أركون بمناسبة منحه جائزة ابن رشد للفكر الحر لسنة 2003 برلين 6/12/2003 – معهد جوته، نصّ على تعامل الشيخ محمد الغزالي الداعية المصري الشهير معه تعاملاً أحزنه واستاء منه، إذ قال: كفّرني الشيخ محمد الغزالي بالجزائر ، وكان ذلك أمام الجمهور الجزائري في ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر العاصمة سنة 1987 وكنت أشرح جملة كتبتها في كتابي عن الفكر العربي وذكرتُ فيه “القرآن خطاب Mythos ” وقد ترجم الأستاذ عادل العوّا سابقاً كلمة Mythos بكلمة أسطورة بالعربية، في وقت لم يكن معروفاً حتى في فرنسا الفرق بين الأسطورة والقصص، فأصبح الاصطلاح ” القرآن خطاب أسطوري” وهذه هي الطّامة الكبرى. أنظروا اللغة العربية، إنّ اللغة تجعلنا أسرى فلا يمكن أن نتحرك، تضع حدوداً. إنّ هذه المصطلحات في اللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية ليس فيها مشكلة لأنها كلها تنتمي إلى أصول اللغة اليونانية. والمشكلة حدثت لأني اكتب بالفرنسية. طبعاً يمكنني أن اكتب بالعربية التي أتقنها، ولكني إذا كتبت مجلداً واحداً في الفرنسية سيصبح ثلاثين مجلداً بالعربية وذلك لنقص المصطلحات المناسبة لكل ما أقوله بالفرنسية. ولكن المشكلة ليست عند عادل العوا أستاذ الفلسفة في دمشق، بل أن معظم الكتاب والمدرسين العرب يستعملون كلمة أسطورة لشرح كلمة Mythos . ومفهوم ميثوس هو مفهوم أنتروبولوجي وليس تاريخي، هي مقولة من مقولات العقل البشري، لا يمكن أن تقول هذا جائنا من أرسطو وأفلاطون فقط. والميثوس متواجد دائماً مع اللوغُسْ لا نفرق بينهما ولا يزالان يتصارعان في كل خطاب ينتجه العقل البشري في كل لغة وفي كل ثقافة. وأنا ماذا اعمل لأني مسلم ولأني عربي؟ أربط هذه الكمية العظمى من المفاهيم وأضعها في لغة قرآنية كانت هي كخطاب القرآن قد أدركتْ وميّزتْ تميزاً دقيقاً بين الأسطورة والقصص. يقول القرآن في صورة يوسف ” إنا نقصُّ عليك أحسن القصص”. لذلك كافحتُ ولا أزال أكافح لمحو الترجمة الجارية على اللسان العربي. ولكن المشكل هي مع الشعوب العربية ومع الصحافة ومع خطاب الشارع، والمدرسة لا تساعد أبداً فهي متماشية مع الخطاب الشعبوي، المدرسة تستعمل الخطاب الشعبوي وهذا هو الواقع.
أثارت تلك الحادثة لغطًا كبيرًا في الجزائر كما يروي أحد المشاركين في المؤتمر الذي حدثت فيه الواقعة التي جعلت من الغزالي شيخًا تكفيريًّا، وحاول البعض تصحيح صورة الغزالي من خلال روايته قائلا: كنت من بين الحاضرين في الملتقى الذي عُقد تحت إشراف معالي الشيخ عبد الرحمن شيبان وزير الشؤون الدينية، وكان ذلك في سنة 1984 بفندق الأوراسي في الجزائر العاصمة، تحت عنوان: “الصحوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي” ، وكان الشيخ الغزالي يترأس الجلسة التي شارك فيها أركون كمحاضر، وعرض الدكتور محمد أركون في مداخلته رأيه القائم على اعتبار القرآن الكريم خطابا لغويا يجب أن تخضعه لأحكام ومقاييس النقد البنيوي، أي أن نعامل القرآن الكريم الذي يؤمن المسلمون بأنه وحي إلهي مقدس كما نعامل أي نص بشري، نطبق عليه مناهج العلوم الاجتماعية لتحليله وفهمه. وقد استفز هذا الرأي الشيخ محمد الغزالي الذي قاطع الدكتور محمد أركون قائلا له: إن أباك –رحمه الله- قد أطلق عليك خير الأسماء، وهو اسم محمد –صلى الله عليه وسلم- قناعة منه بأنك مسلم، ولكن إذا كنت تعتقد صحة ما تدعو إليه فأنت مرتد. وردّ الدكتور محمد أركون بعصبية ولهجة قاطعة: أنا مسلم ولا أقبل من أيّ أحد أن يشكك في إسلامي. وعقّب الشيخ محمد الغزالي قائلا: إذن عليك أن تكرر أمام هؤلاء الحضور شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وصدرت من بعض الحضور صيحات مؤيدة لكلام الشيخ محمد الغزالي. (2 )
وكما حاول البعض أن ينزّه الغزالي المعاصر عن ممارسة التكفير، انتصر البعض لرأيه وراح يلتمس من كلام محمد أركون ما يدينه ويخرجه من الإسلام!
هذه المواقف وأمثالها يتذكرها الإنسان وهو يقرأ كتابات المستشرقين عن الإسلام، فيدرك أن الهوة شاسعة بين ما نتبناه من قيم ومبادئ إسلامية، وبين ما نمارسه من سلوك باسم الدين ولا يخدم الإنسان اليوم.
المصادر:
1-قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَحَدَّثَنِي محمد بن جعفر بن الزبير، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ دَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِدَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَحَانَتْ صَلَاتُهُمْ، فَقَامُوا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ، فَأَرَادَ النَّاسُ مَنْعَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «دَعُوهُمْ»، فَاسْتَقْبَلُوا الْمَشْرِقَ، فَصَلَّوْا صَلَاتَهُمْ.
2- : كان الشيخ محمد الغزالي داعية وواعظا مختلفًا يندر وجود مثله اليوم ! لما استيقظ الناس على الثورة المصرية 2011 ، وسمعوا من السلفيين ما أدهشهم استعادوا مقولات الغزالي، الذي تصدى وحده لهذا الخطاب عمرا طويلا ، فأصبحت مقولات الغزالي على لسان الليبرالي والعلماني والصوفي وغيرهم. من الصعب أن نختزل جهوده في حادثة معينة .. كانت مكانة الغزالي في الجزائر كالشعراوي في مصر، ينبغي أن نضع هذا في الحسبان .. كذلك كان الغزالي يدافع عن المرأة في وقت قبرها الخطاب الديني .. كذلك دافع عن الآخر المذهبي (الشيعة) في وقت كفرّهم الاخرون .. كذلك قدم شرحا لمبادئ الاخوان المسلمين وقدم نقدا لهم في بداياتهم الأولى.. كذلك اشتهر بفهم ذاتي للقران الكريم عاش فيه مع النص بشكل مختلف عن معاصريه واقرانه .. ولو تحدثنا عن موقفه من التنوير كباحثين، لا نتحدث عن موقفه من فرج فودة أو نصر أبي زيد أو محمد أركون، بل إن المتابع بدقة لأعمال الغزالي يمكن أن يضعه في طليعة نقاد التفكير الديني في العصر الحديث، فما كتبه عن الفقه والحديث والمرأة وكُفّر بسببه، ويُكفّر حتى اليوم (مثال: كتابات الخراشي السعودي الحديثة عنه) يمكن دراسته بالمقارنة مع جهود من كفّرهم هو .