الكاتب: د.حمد الرشيدي
يَذْكُرُ أبو حيان التوحيدي في كتابه “البصائر”: أن رجلا دخل جامع الرصافة فوجد فيه المفدى بن زكريا -وهو من هو في جلالة قدره ورسوخ قدمه في العلم- وجده في حالة من الضُّر والفقر والهوان، فقال له: اصبر واحتسب، فقال المفدى: لا بد مما ليس منه بد، (أي لابد للمرء من بيت يأوي إليه، وزوج يسكن إليها ولابد له مما يسد جوعته ويواري سوأته) ثم أنشأ المفدى، يقول:
يا نقمة الله كفي***وإن لم تكفي فخفي
قد آن أن ترحمينا***من طول هذا التشفي
فلا علومي تجدي***ولا صناعة كفي
نور ينال الثريا***وعالم متخفي
والشاهدُ قوله: ثور ينال الثريا وعالم متخفي، حيث إن مناط تطوّر المجتمعات وتقهقرها يرجع في معظمه إلى طريقة اختيار المسؤول، ولن تجد أمة تطورت إلا وكان على رأسها عظيم من العظماء، فإذا أتينا للشرق؛ فأبرز مثال هو (لي كوان)، صانع نهضة سنغافورة، والذي نقلها من كونها بلد الأوبئة والمستنقعات إلى أن صارت غرة في جبين التاريخ، “وتجمع آراء الخبراء الاقتصاديين على أن نقطة قوة لي كوان لم تكن السياسة الاقتصادية التي انتهجها، فأي خطة بالإمكان أن تعدّل وتُراجع وتصحح، بل تجسدت في حرصه المستمر على محاربة الفساد الإداري، والقطيعة مع البيروقراطية، وفسح المجال للمستثمرين الأجانب، وفتح الباب أمام المهاجرين من النخب العلمية للاستقرار ببلاده، التي لم يكن عدد سكانها يتجاوز المليونين”، وإذا أتينا للغرب؛ فأبرز مثال هو (لولا دي سيلفا)، صانع نهضة البرازيل، الذي أحدث تغييرات في نظام الضرائب، وقوانين العمل؛ ليشجّع الاستثمار المحلي والخارجي، وقام بتطهير القضاء من الفساد، وأجرى إصلاحات جذرية في التعليم الجامعي ليتوافق مع النهضة المجتمعية؛ فانتقلت البرازيل من دولة “مفلسة” ومدينة، حين استلم السلطة عام 2003م، إلى سادس أكبر اقتصاد على مستوى العالم، وبعد أن كانت مدينة بـ 250 مليار دولار للصندوق الدولي؛ أصبح الصندوق مدينا للبرازيل، ولو تأملنا في حال الرجلين لوجدنا أنه يجمعهما عامل مشترك وهو محاربة الفساد، والقضاء على البيروقراطية المقيتة، وهذا يستدعي بالتالي اختيار الأكفاء في المناصب القيادية، الذين يعملون أكثر مما يتكلمون، ويتمتعون بالخبرة والنزاهة.
إن المسؤول إذا كان فاسدا؛ كان أكبر همّه جمع المال، والاستيلاء على مقدرات البلد لمصالحه الشخصية، وتراه يُعرقل معاملات الناس حتى لا ينافسوه في مشاريعه الخاصة، وتجده عميلا للخارج؛ لأن النزاهة معدومة لديه، فهو عبد الدينار والدرهم، ومهما تغنّى بالوطنية ونوّه بها؛ فهو لا يعدو أن يكون ممن قال فيهم غازي القصيبي: (احذر من المرأة التي تكثر الحديث عن الشرف)، وكلكم يذكر قصة الولايات المتحدة الأمريكية في حربها مع الاتحاد السوفيتي، حيث كانت تملك جاسوسا روسيا يعمل مستشارا للرئيس الروسي في ذلك الوقت، وكان هذا الرجل من أكثر السياسيين السوفييت تفانيا وإخلاصا في العمل، وعندما تم كشفه كجاسوس للمخابرات الأمريكية؛ وجدوا أن عمله يقوم على أساس (وضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب والعكس صحيح).
إننا نعاني في دول العالم الثالث من رداءةٍ في اختيار المسؤول، حيث يتم اختيارهم لا على أسس علمية وخبرات معرفية وكفاءة في اتخاذ القرار، بل بناءً على رغبات وأهواء تتعلق بالمعارف والوساطة والمصالح الذاتية؛ مما يعيق تقدّم المجتمعات ورقيّها، ولذلك تفاجأ أحد المدربين وهو يعقد دورة لوكلاء وزارات إحدى هذه الدول حين سألهم عن طريقة اتخاذ قراراتهم، التي تبنى عليها الدولة، ويسير بها الاقتصاد، وتنمو بها البلاد؛ فلم يحيروا جوابا! مع أن هناك خمس خطوات لابد لكل مسؤول أن يعرفها، وهي باختصار: تحديد هدف اتخاذ القرار، واستشارة أهل الخبرة، ثم إكثار البدائل، وبعدها اختيار الأفضل منها، ثم وضع القرار موضع التنفيذ – وللأسف- قد يمرّ القرار بكل هذه المراحل ولكنّه يبقى حبيس الأدراج؛ لأنه لم يصدر معه خطوات تنفيذه، بإصدار مرفق بالقرار، من سينفذه؟ ومن سيتابع تنفيذه؟ وأين سيقام؟ وكم سيكلف؟ ومتى سيبدأ؟ ومتى سوف ينتهي؟؛ ولذلك تبقى دولنا تدور في مكانها كحجارة الرحى تطحن آمال شعوبها، إن عشوائية اتخاذ القرارات الناجمة من اختيار مسؤولين ليسوا أهلا لتلك المناصب، ويتربّعون على رأس المؤسسات؛ هو الذي يؤدي إلى كل التقهقر الحضاري، ويعجّل بانهيار الحكومات؛ لأن الأساس إذا كانت تنخره الأرضة؛ فالبناء كله سينهار، وقديما قال الشاعر:
لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضَى لا سَراةَ لَهُمْ***ولا سَـراةَ إذا جُهّالُهُـمْ سادُوا