د. بدرالدين العسلي – أستاذ مساعد في هندسة النقل والمواصلات – قسم الهندسة المدنية والبيئية، كلية الهندسة، الجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا
تشهد العاصمة العمانية مسقط، بما لها من رمزية سياسية واقتصادية وتاريخية وثقافية، نمواً سكانياً متسارعاً منذ عقود، لتصبح مدينة محورية في السلطنة تحتضن شريحة واسعة من المواطنين العمانيين والوافدين. هذا النمو المتسارع، وإن كان انعكاساً للتطور والتنمية، إلا أنه أفرز تحديات يومية كبيرة، لعل أبرزها الازدحام المروري الذي بات يشكّل همّاً للمواطن، وتحدياً للجهات المسؤولة عن تخطيط شبكة الطرق وتنظيم الحركة المرورية عليها.
الازدحام المروري في مدينة مسقط
صورة الواقع اليومي للحركة المرورية
لا يكاد يمر يوم على مستخدمي الطريق وسائقي المركبات في مدينة مسقط دون أن يجدوا أنفسهم في طوابير طويلة من السيارات، سواء في الصباح الباكر عند التوجه إلى أماكن الدراسة والعمل، أو في ساعات المساء عند العودة. وتعد مناطق مثل شارع السلطان قابوس، ودوار برج الصحوة، الخوض، المعبيلة، الخوير، مطرح، وروي نقاطاً ساخنة يتكرر فيها الاختناق المروري بشكل شبه يومي.
ويكمن وراء ذلك الاختناق عدة أسباب متداخلة؛ أهمها الاعتماد شبه الكامل على المركبات الخاصة كوسيلة نقل أساسية، وقلة الاعتماد على الوسائل البديلة كالنقل العام، إضافة إلى تزايد الكثافة السكانية في ضواحي العاصمة بشكل متسارع، الأمر الذي يفرض ضغطاً هائلاً على الشوارع الرئيسية المؤدية إلى داخل المدينة.
أبعاد مشكلة الازدحام المروري
لا يقتصر تأثير الازدحام المروري على إضاعة وقت السائقين والركاب، بل يمتد ليشمل الجوانب الاقتصادية والبيئية وحتى جودة الحياة بشكل عام. فالوقت الطويل الذي يمضيه الموظفون والطلاب وغيرهم في محاولة الوصول إلى وجهاتهم يؤثر سلباً على إنتاجيتهم ويستهلك موارد يومية بشكل غير فعال. بالإضافة إلى ذلك، فإن زيادة استهلاك الوقود لا تقتصر على التكلفة المالية فقط، بل تساهم أيضاً في زيادة الانبعاثات الضارة التي تؤثر سلباً على البيئة. كما أن الضغوط النفسية الناتجة عن الانتظار الطويل خلال ساعات الذروة تُحدث توترًا عالياً قد يتسبب في ارتفاع احتمالية وقوع الحوادث المرورية، مما يجعل الازدحام مشكلة متعددة الأبعاد تؤثر على حياة الأفراد والمجتمع ككل.
من جهة أخرى، تعاني بعض المناطق التجارية في مسقط، مثل روي ومطرح، من إشكالية عدم توفر مواقف السيارات، حيث لا تتوافر ساحات كافية مقارنة بحجم الطلب اليومي، مما يزيد من حدة تكدس المركبات ويعرقل انسيابية الحركة.
جهود قائمة لا يمكن إنكارها
مما لا شك فيه أن الجهات المعنية في السلطنة بذلت جهوداً كبيرة وملموسة خلال العقود الماضية لحل هذه المشكلات والتخفيف من هذه التحديات. فقد شهدت مسقط إنشاء جسور وأنفاق وتوسعة لشوارع رئيسية عديدة مثل شارع السلطان قابوس، إضافة إلى إنشاء طرق جديدة وتطوير بدائل للمرور مثل طريق مسقط السريع الذي خفف الضغط عن الطرق الداخلية.
تم تعزيز نظام الرقابة المرورية بشكل متزامن من خلال تركيب الرادارات والكاميرات التي أسهمت في التحكم بسرعات المركبات وتقليل نسبة الحوادث. أما فيما يتعلق بالنقل العام، فقد أطلقت شركة “مواصلات” مبادرة توفر مجموعة من خطوط الحافلات الحديثة لتغطية مجموعة من المسارات الحيوية داخل العاصمة مسقط. هذه المبادرة تعتبر خطوة أولى نحو ترسيخ ثقافة جديدة للتنقل في السلطنة، رغم أنها لا تزال محدودة مقارنة بحجم الطلب العام.
الحاجة إلى حلول جذرية
وعلى الرغم من هذه الجهود الكبيرة، فإن مدينة مسقط لا تزال بحاجة إلى نقلة نوعية في التفكير بحلول طويلة الأمد، بدلاً من الاكتفاء بالمعالجات الجزئية المحدودة في بعض التقاطعات هنا وهناك. فعلاج مشكلة الازدحام في تقاطع معين على سبيل المثال، يمكن أن يخفف الازدحام في ذلك التقاطع ولكنه ينقل المشكلة ويزيدها تعقيدا في تقاطعات أخرى. من المهم ادراك أن البنية التحتية مهما توسعت لن تستطيع مواكبة النمو السكاني والاقتصادي المتواصل إذا بقي الاعتماد على التنقل بالسيارة الخاصة وحدها قائماً.
لمواجهة هذه التحديات، يمكن اتباع مجموعة من الحلول الاستراتيجية المتكاملة التي تعتمد على توزيع الحركة المرورية بين أنماط النقل المختلفة بما يضمن تحسين خدمات النقل العام وجعلها أكثر كفاءة وسهولة:
تطوير خيار النقل العام:
من الضروري العمل على تطوير شبكة النقل العام عبر توفير حافلات عالية الكفاءة وسريعة التردد لتقليل فترات الانتظار بين الرحلات، مع دمجها بتطبيقات ذكية للهواتف المحمولة تمكن الركاب من متابعة مواعيد الانطلاق والوصول بشكل دقيق لكل محطة. ولضمان انسيابية الحركة ودقة تلك المواعيد، ينبغي تخصيص مسارات مرور خاصة للحافلات العامة. بالإضافة إلى ذلك، يُفضل توسيع نطاق الرحلات ليشمل مناطق أوسع داخل المدينة. وبذلك تزداد ثقة المواطن بكفاءة ودقة النقل العام الأمر الذي سوف يشجعه على استخدامه.
إن استخدام النقل العام أمر أساسي في حل مشكلة الازدحام المروري. فتشغيل حافلة واحدة قادرة على استيعاب أربعين راكباً يعادل عملياً استغناء أربعين فرداً عن سياراتهم الخاصة، وهو ما يسهم في تقليل عدد المركبات في الشوارع والحد بشكل كبير من الاختناق المروري.
حافلة عامة واحدة تعادل أربعين سيارة خاصة
على المدى البعيد، يمكن النظر في تنفيذ مشاريع استراتيجية مثل إنشاء قطار هوائي (Monorail) أومترو خفيف أو قطار حضري لتعزيز قدرة مدينة مسقط على التعامل مع الطلب المتزايد على وسائل النقل بكفاءة أكبر.
القطار الهوائي (Monorail)
تشجيع أنماط نقل بديلة:
يتمثل ذلك في تعزيز البنية التحتية للمشاة وراكبي الدراجات، خصوصًا في المناطق السكنية الحديثة. ويهدف ذلك إلى دفع السكان نحو اعتماد المشي أو ركوب الدراجة للمسافات القصيرة، مما يسهم في تخفيف الضغط على شبكات الطرق وتحسين صحتهم العامة.
تنظيم أوقات العمل:
من الممكن تطبيق أنظمة “الدوام المرن” في عدد من المؤسسات الحكومية والخاصة، بحيث يتم تنظيم حضور الموظفين وانصرافهم على فترات متفاوتة بدلاً من تجمعهم في ساعات محددة صباحاً ومساءً، وتجنب التزامن مع أوقات ذهاب واياب الطلاب إلى المدارس والجامعات. هذا الإجراء يسهم في توزيع حركة المرور على مدار اليوم ويقلل من كثافتها خلال أوقات الذروة.
حلول مبتكرة وذكية لإدارة مواقف السيارات:
من خلال تصميم مبانٍ متعددة الطوابق مخصصة لمواقف السيارات في المناطق التجارية داخل المدينة، مع دمج أنظمة ذكية قادرة على تحديد المواقع الشاغرة بسهولة. هذه الخطوة تسهم في تخفيف الازدحام وتقليل الوقت الذي يُهدر في البحث عن مكان مناسب للوقوف.
مواقف طابقية للسيارات
التوسع في برامج التوعية المرورية:
تهدف هذه البرامج إلى تعزيز فهم السائقين لأهمية الالتزام بالقوانين وتأثير تصرفاتهم على حركة المرور. و يشمل ذلك التثقيف حول مخاطر الوقوف العشوائي واستخدام الهاتف أثناء القيادة، بالإضافة إلى تطبيق عقوبات صارمة على من يخالف القواعد لضمان انسياب حركة السير وسلامة الجميع.
المجتمع شريك رئيسي في الحل
يُعد المجتمع عنصراً أساسياً لتحقيق النجاح في تنفيذ أي خطة لمعالجة مشكلة المرور بمدينة مسقط، لا يمكن الاعتماد فقط على البنية التحتية التي تقدمها الحكومة، بل يتطلب الأمر تفاعلاً ووعياً مجتمعياً. فالقرارات الصغيرة، مثل اختيار استخدام وسائل النقل العام أو مشاركة المركبة مع الزملاء، تسهم بشكل كبير في تقليل الازدحام. بالإضافة إلى ذلك، تلعب المؤسسات دوراً محورياً عندما تتبنى أنظمة العمل المرنة أو توفر خدمات نقل لموظفيها، مما يجعلها جزءاً مؤثراً من الحل.
مستقبل الحركة المرورية في مدينة مسقط
يعتمد مستقبل الحركة المرورية في مدينة مسقط على قدرة العاصمة العمانية على تحقيق توازن دقيق بين تطوير بنية الطرق الحديثة، وتعزيز النقل العام الفعّال، وترسيخ سلوكيات مرورية مسؤولة. فإذا نجحت في ذلك، فإنها بلا شك ستصبح نموذجًا للمدن المستدامة التي توفر خيارات تنقل مريحة تلائم تطلعات سكانها. هذا التحوّل يتطلب رؤية شاملة تتجاوز الحلول الهندسية التقليدية المحدودة لتشمل التخطيط الحضري المدروس، والاقتصاد الحكيم، وتنمية الوعي المجتمعي.
إن التحدي المروري الذي تواجهه مدينة مسقط ليس مجرد مشكلة وقتية عابرة، بل هو معضلة حضرية معقّدة تستدعي قرارات استراتيجية متكاملة وجهودًا متسقة بين الجهات الحكومية والمجتمع. فالعاصمة العمانية تستحق أن تكون مدينة يسهل التنقل فيها، بشكل يعكس مكانتها التاريخية ورقيّ حضارتها، ويواكب طموحاتها نحو مستقبل أكثر استدامة وإشراقًا.