الدكتور بدر بن أحمد البلوشي/ مستشار إعلامي*
في زمن مضطرب تتنازع فيه الحقائق مع الأوهام، يظل الإعلام السلاح الذي لا يصدأ.. الصاروخ يُدمر لحظة واحدة، أما الكلمة فتدمر أو تبني لقرون.. هنا ظهرت قطر لتقول للعالم إن حجم الدولة لا يُقاس بمساحتها الجغرافية ولا بعدد جنودها، بل بقدرتها على فرض سرديتها في عقول الملايين.
بعد الضربة الأخيرة، توقع الخصوم أن يسيطر الصمت على المشهد.. لكن الدوحة بددت أوهامهم، وأمسكت بزمام السردية من اللحظة الأولى.. فالفراغ الإعلامي أخطر من الضربة ذاتها، ومن يتأخر في روايته يترك التاريخ يكتبه الخصم.. وهنا أدركت قطر أن الإعلام ليس رد فعل، بل فعل سابق على كل حساب.
لم تكن الاستجابة القطرية مجرد انفعال، بل كانت جراحة في جسد متعب.. كل كلمة خرجت كرصاصة منضبطة المسار، وكل صورة بُثت كوثيقة لا يمكن الطعن فيها.. بدا المشهد كأن وراءه غرف عمليات إعلامية محصنة بالعقول، لا مجرد استديوهات تبحث عن عناوين عاجلة.
الأكثر إدهاشا أن قطر لم تجعل خطابها متمحورا حول ذاتها، بل وسعت الدائرة لتربط الحدث بفلسطين.. لم تقل نحن ضربنا، بل قالت الأمة كلها تُستهدف.. إنها قفزة نوعية من الدفاع عن النفس إلى الدفاع عن قضية كبرى.. وهذا هو الفرق بين من يحكي ألما عابرا ومن يصوغ رواية خالدة.
في تفاصيل لم تُكشف من قبل، أظهرت الدوحة أن المنابر الإعلامية كانت تعمل بتناغم أوركسترالي مذهل.. المحللون، المذيعون، المؤثرون، كلهم بدوا كأنهم يعزفون من نوتة واحدة.. تعددت الأصوات، وتوحد الإيقاع.. وهكذا تحولت الفوضى الإعلامية المتوقعة إلى سيمفونية إقناع مدروسة.
ثم جاء الاستثمار في الرمزية.. الصور التي خرجت لم تكن مجرد لقطات، بل كانت طلقات.. الألفاظ لم تكن مجرد كلمات، بل كانت شحنات وجدانية تهز الضمير الجمعي.. لقد تحولت الصورة إلى أيقونة، والخطاب إلى عهد، واللحظة إلى تاريخ لا يُمحى.
وفي خطوة محسوبة، حرصت قطر على تدويل خطابها.. جُمل قصيرة، محكمة، تصلح أن تُترجم فورا إلى أي لغة.. لم تخاطب جمهورها فقط، بل وضعت الرأي العام الدولي في قلب العاصفة.. وكأنها تقول للعالم.. نحن لا نستجدي تعاطفكم، بل نضع ضمائركم أمام اختبار لا مهرب منه.
سر آخر لم يتنبه له كثيرون هو تعدد مستويات الخطاب.. خطاب رسمي يخاطب قادة الدول، خطاب تحليلي يوجه العقول الباحثة، وخطاب وجداني يشعل العاطفة الشعبية.. هذا التدرج أوجد جدارا حصينا يصعب على الخصوم اختراقه، وخلق دائرة كاملة لا تترك فجوة يمكن النفاذ منها.
أما على جبهة الإعلام الرقمي، فقد تحولت الوسوم إلى خنادق، والتغريدات إلى مقذوفات، والمقاطع المصورة إلى أعلام ترفرف في الفضاء الرقمي. المنصات لم تكن مجرد وسيلة تواصل، بل ميدان حرب جديد. هنا فهمت قطر أن المعركة الحقيقية لا تدور في قاعات المؤتمرات فقط، بل في شاشات الهواتف بين أيدي الشعوب.
وما يزيد التجربة بريقا أن الإعلام القطري لم يكتف بتسجيل الألم، بل حوله إلى قوة ضغط سياسي.. ارتبك الخصوم أمام كثافة الرسائل، واضطر الحلفاء إلى مراجعة حساباتهم، ووجدت المؤسسات الدولية نفسها في مأزق أخلاقي أمام خطاب لا يمكن تجاهله.
هذه ليست مجرد حملة إعلامية، بل كانت عملية استباقية مدروسة.. تم فيها استخدام كل الأدوات.. الصورة، الكلمة، التحليل، الوسوم، الرمز، الخطاب العاطفي والعقلاني معا.. والنتيجة أن الضربة تحولت من خسارة إلى منصة قوة.
الإعلام هنا لم يكن انعكاسا للحدث، بل كان صناعة للحدث ذاته.. الإعلام القطري أعاد تعريف المعركة، حولها من صراع عسكري محدود إلى قضية أخلاقية شاملة.. وهذا هو سر العبقرية.. أن تغير ميدان المواجهة لصالحك قبل أن يلتقط خصمك أنفاسه.
إن ما فعلته قطر هو درس لكل إعلامي عربي.. لا تجعل صوتك مجرد صدى، بل اجعله أصل الصوت.. لا تجعل خطابك وصفا للألم، بل اجعله صناعة للأمل.. لا تكتف بأن تكون ناقلا، بل كن صانعا للرواية.
من هذه التجربة ندرك أن الإعلام ليس صخبا في الفراغ، بل هندسة دقيقة للوعي.. ليس القوة في كثرة البيانات، بل في جمال العبارة وانسجام الرسالة.. ليس النجاح في التكرار، بل في صياغة ما يجعل الناس يرددونه طوعا دون أن تطلب منهم.
لقد أثبتت قطر أن الدول لا تُقاس بعدد الجنود ولا بعدة الأسلحة فقط، بل بقدرتها على صناعة الرواية وإدارة العقول.. لقد حولت الضربة إلى منصة صعود، والألم إلى طاقة تأثير، والصوت الإعلامي إلى سلاح استراتيجي.
الإعلام ليس تابعا للحدث، بل هو صانعه الأول.. من يملك السردية يملك التأثير، ومن يسيطر على الرواية يسيطر على العقول، ومن يسيطر على العقول يكتب التاريخ. والدوحة أثبتت أن الضربة قد تكسر الجدار لكنها لا تكسر الصوت، وأن الكلمة حين تُدار بعقل يمكن أن تُهزم بها جيوش.
*مطور استراتيجيات الاتصال والابتكار الإعلامي | دكتوراه في الإعلام والعلاقات العامة وباحث في التخطيط الاستراتيجي وعلم النفس في الإدارة الحديثة | عضو الجمعية العمانية للكتاب والأدباء