فهد أحمد الباكر – كاتب مسرحي قطري
في المشهد الراهن، يطلّ علينا نمط من “المخرجين” لا يتجاوز دورهم ما يشبه “شرطي المرور” على الخشبة.
وظيفتهم محصورة في إدخال الممثلين وإخراجهم، وضبط حركتهم الميكانيكية، وكأن المسرح ليس إلا تقاطع طرق يحتاج إلى إشارات وتنظيم سير… لا أكثر.
لكن المسرح ليس شارعًا، والممثل ليس عابرًا عابرًا.
المسرح حياة، كل حركة فيه نَفَس، كل التفاتة معنى، وكل صمت نداء. وحين يغيب هذا الوعي، ينقلب العرض إلى جسد بلا روح، إلى نص مكتوب يترجم ميكانيكيًا إلى إيماءات فارغة لا تسكنها الدهشة ولا يزهو فيها الإبهار.
وظاهرة “شرطي المرور” لم تقتصر على جيل جديد فقط، بل تسللت حتى إلى بعض المخرجين من الأجيال السابقة، أولئك الذين اكتفوا بسطح النص، وعجزوا عن الغوص في أعماقه، فلم يحملوا رؤية ولا فلسفة، واكتفوا بالتنفيذ كما ينفَّذ أمرٌ عابر.
المسرح ليس حركة اعتباطية، ولا زخرفة بصرية جوفاء. إن كل إشارة، كل وقفة، كل انتقال، إنما هي لبنة في بناء درامي، مبرَّرة نفسياً، ومشدودة بخيوط المعنى. والمخرج الذي لا يقرأ، ولا يدرس، ولا يتأمل مدارس الإخراج وفلسفاتها وجمالياتها، لن يمتلك أدوات صناعة الصورة البصرية المدهشة، ولا طاقة الإيماءة الرمزية، ولا عمق البُعد الإنساني.
والكارثة أنّ بعضهم لم يلجأ إلى الإخراج إلا بعد أن فشل في التمثيل أو التأليف، فظنّ أن الخشبة ستمنحه سلطة… ولم يدرك أن الإخراج ليس سلطة بل مسؤولية؛ مسؤولية ثقيلة تمتد من الفلسفة إلى التشكيل، من الألوان إلى الدراماتورجيا، ومن الجماليات إلى فهم النفس البشرية.
المخرج الحقيقي لا يحرّك الممثل من أجل الحركة، بل من أجل المعنى. لا يضيف مشهدًا إلا ليكشف عن رؤية. لا يستخدم الضوء والديكور وال衣اء إلا كأدوات تنسج في النسيج الكلّي للعرض، فلا يتفكك ولا يتناقض، بل يتماوج كقصيدة على خشبة حيّة.
اليوم، نحن بحاجة إلى مخرج مثقف، قارئ، رؤيوي؛ يحوّل النص إلى صور بصرية مدهشة، محمّلة بالرموز، مشتبكة مع الحياة والإنسان، قريبة من هموم الناس ودهشتهم.
أما “شرطي المرور” فليس إلا عبئًا على الخشبة. يقف عند تقاطع الطرق، يوزّع الإشارات، ويمنع الدهشة من المرور.