بقلم: المحامي أحمد بن حسن البحراني
مقدمة
في عالم المال، يظل الوعد بالربح السريع والمضمون هو الطُعم الأخطر الذي يقع فيه الكثيرون. تتغير الأسماء، وتتبدل الأدوات، وتُغلف الحيل بواجهات براقة وشعارات لامعة، لكن القصة قديمة قدم شارلز بونزي الذي خدع الآلاف في بوسطن قبل أكثر من قرن.
واليوم، ومع صعود المنصات الرقمية والتجارة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، نكتشف أن جوهر الخديعة لم يتغير: وعود خيالية بلا أساس حقيقي، ومخططات هرميّة تستنزف أموال الناس، ثم تنهار تاركةً وراءها ضحايا يبحثون عن العدالة.
ما هو مخطط بونزي؟
في عام 1920، ظهر رجل إيطالي يُدعى شارلز بونزي في مدينة بوسطن الأمريكية، وأقنع الناس باستثمار أموالهم في مشروع يقوم على “قسائم بريدية دولية”. وعدهم بربح مذهل: 50% خلال 45 يومًا.
لكن الحقيقة أن بونزي لم يكن يملك نشاطًا استثماريًا حقيقيًا. كان يدفع أرباح المستثمرين القدامى من أموال القادمين الجدد. استمر الوهم عدة أشهر فقط، ثم انهار تاركًا وراءه آلاف الضحايا وخسائر بملايين الدولارات.
منذ ذلك الحين، أصبح اسم “بونزي” مرادفًا لكل مخطط يقوم على نفس الآلية: وعد خيالي + تدفق أموال جديدة + انهيار حتمي.
كيف نتعرف على هذه المخططات؟ (العلامات الحمراء)
التجارب التاريخية والحديثة تكشف عن سمات متكررة:
- أرباح عالية ومضمونة: الاستثمار الحقيقي لا يعرف ضمانًا.
- غموض مصدر الربح: كلمات براقة مثل “الذكاء الاصطناعي” أو “الاستثمار العالمي” بلا تفاصيل عملية.
- التسويق عبر المؤثرين والإعلام: لبناء ثقة اجتماعية زائفة.
- أرباح صغيرة أولاً: لإقناع الضحايا وجذب مزيد من المشاركين.
- غياب الملاءة المالية: وجود سجل تجاري لا يعني وجود أصول أو نشاط فعلي.
لماذا ينجذب الناس إليها؟
الضحايا غالبًا ليسوا طماعين بقدر ما هم باحثون عن فرصة لتحسين أوضاعهم. الدراسات (مثل كتاب The Ponzi Scheme Puzzle) توضّح أن الدوافع الأساسية هي:
• الأمل المشروع في تحسين الدخل.
• الثقة في الواجهات: سواء كانت مؤثرين، إعلاميين، أو حتى حضورًا رسميًا في بعض المناسبات.
• الانبهار بالمظاهر: حفلات فاخرة، لغة تقنية، ووعود براقة.
• الخوف من فوات الفرصة “الجميع يستثمر… فلماذا أتأخر؟”.
الإطار القانوني في سلطنة عمان
المشرّع العُماني كان واضحًا في تجريم هذه الممارسات عبر قانون الجزاء (الفصل الثاني – الاحتيال):
• المادة (349): تعاقب بالسجن والغرامة كل من حصل على نفع غير مشروع باستعمال طرق احتيالية أو صفة كاذبة.
• المادة (350): تعاقب كل من تصرّف في مال وهو يعلم أنه ليس ملكًا له بما يضر الغير.
• المادة (351): تشدد العقوبة إذا استغل الجاني حاجة أو عدم خبرة الضحية، وقد تصل إلى 5 سنوات سجن إذا كان الجاني وصيًا أو وليًا.
• المواد (353–354): حتى الشروع في الاحتيال يُعاقب، وتُضاعف العقوبة إذا تعدد الضحايا.
هذه النصوص تعكس وعي المشرّع بخطورة الخداع المالي، لكنها في الوقت نفسه تؤكد أن الوقاية تبدأ من وعي الأفراد قبل تدخل القانون.
الخلل البنيوي في تأسيس الشركات
من أبرز التحديات في بيئة الأعمال أن كثيرًا من الشركات الصغيرة تؤسس وكأنها “دكاكين”، بلا مقر فعلي أو نشاط قائم.
بعض السجلات التجارية تُستخدم فقط للحصول على قروض أو بضائع، ثم تُباع لأشخاص بسطاء يتحملون المسؤولية بدلًا عن المستفيد الحقيقي.
هذا الخلل البنيوي يفتح الباب أمام الشركات الوهمية التي تظهر فجأة في السوق بوعود مغرية، ثم تختفي تاركةً وراءها خسائر جسيمة.
الإصلاح يتطلب:
• إلزام الشركات بالإفصاح عن المستفيد الحقيقي .
• فرض إيداع حسابات سنوية مدققة.
• ربط السجل التجاري بالضرائب والقطاع المصرفي لمنع السجلات الورقية الوهمية.
الأصل في الاستثمار
الأصل في الاستثمار أن يكون في شركة قائمة بنشاط حقيقي وملاءة مالية مثبتة.
وجود سجل تجاري لا يكفي، فالعبرة بقدرة الشركة على الاستمرار، وبنشاطها الفعلي وأصولها الواضحة.
فإذا رغبت أن تستثمر:
• استثمر عبر شركات البورصة المرخصة وصناديق الاستثمار الخاضعة للرقابة.
• أو كن شريكًا في شركة مساهمة أو كيان حقيقي له رأس مال مدفوع ونشاط قائم.
أما ضخ الأموال في شركات شبه مغمورة، ليس مجالها الاستثمار، وإنما ظهرت بوعود براقة، فهو مخاطرة مؤكدة وليست استثمارًا.
ولهذا وُجدت البورصة والجهات الرقابية: لحماية أموال الناس وتوفير بيئة استثمارية آمنة وشفافة.
خاتمة
من بونزي في بوسطن إلى المنصات الرقمية الحديثة، تتكرر القصة: الثراء السريع وهم قديم بثوب جديد.
القانون يجرّم هذه الأفعال بوضوح، لكن خط الدفاع الأول هو وعي الأفراد:
• لا تصدق أرباحًا مضمونة بلا مخاطرة.
• تحقق من الترخيص والملاءة المالية للشركات.
• استشر الخبراء قبل أن تستثمر أموالك.
إذا بدا العرض جيدًا لدرجة لا تُصدق… فهو غالبًا غير حقيقي.
