د. سالم الوهيبي
لعنة الموارد… حين تتحول الثروة إلى نقمة
هل يمكن للنفط أن يكون سببًا في الفقر؟
في المفهوم التقليدي، يُنظر إلى الثروة الطبيعية مثل النفط، والغاز، والمعادن كنعمة إلهية ومصدر محتمل للرخاء والتقدم، لكن المفارقة أن العديد من الدول الغنية بالموارد الطبيعية، وخصوصًا في العالم الإسلامي، تعاني من الفقر، الفساد، وانعدام الاستقرار. وهنا تظهر نظرية اقتصادية شهيرة تُعرف بـ “لعنة الموارد” (Resource Curse)، فماذا تعني؟ وكيف تنطبق على واقعنا؟
ما هي لعنة الموارد؟
صاغ هذا المفهوم الاقتصاديون مثل ريتشارد أوتي وتيري لين كارل، بناءً على ملاحظات واقعية في عشرات الدول، فلعنة الموارد هي واحدة من أكثر الظواهر الاقتصادية والسياسية إثارة للجدل في العالم المعاصر، وهي المفارقة التي تجعل الوفرة الطبيعية تتحول من نعمة إلى نقمة. فعلى الرغم من أن المنطق البسيط يوحي بأن امتلاك دولة ما لثروات هائلة من النفط أو الغاز أو المعادن ينبغي أن يضعها على طريق الازدهار، إلا أن الواقع يكشف أن كثيرًا من هذه الدول تنزلق إلى أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، وتتعثر في مسيرة التنمية.
تبدأ الحكاية عندما تغمر الموارد الطبيعية خزائن الدولة بعوائد ضخمة، فتغري الحكومات بالاعتماد المفرط عليها وتغفل عن الاستثمار في تنويع الاقتصاد. ومع مرور الوقت، يتراجع الاهتمام بالزراعة والصناعة، وتفقد اليد العاملة مهاراتها الإنتاجية لصالح الاعتماد على العوائد السهلة. يظهر حينها ما يسميه الاقتصاديون بـ “المرض الهولندي”، حيث يؤدي تدفق الأموال إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية، فتضعف القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية في الأسواق العالمية، ويتراجع الإنتاج.
إن المعضلة الكبرى التي تكشفها لعنة الموارد هي أن الثروة المادية لا تكفي وحدها لصناعة التنمية، وأن غياب الحوكمة الرشيدة يجعل أي وفرة عرضة للهدر. فبينما استطاعت بعض الدول القليلة أن تتجاوز هذه اللعنة عبر بناء مؤسسات قوية وتنويع اقتصادها، فإن معظم الدول النامية الغنية بالموارد لا تزال أسيرة لهذه المفارقة، تعيش في ظل تباطؤ النمو، وضعف الخدمات العامة، وهشاشة المؤسسات. من هنا تتضح القاعدة الذهبية: ليست الموارد الطبيعية هي التي تصنع ازدهار الأمم، بل كيفية إدارتها.
كيف تعمل لعنة الموارد؟
تُشبه لعنة الموارد قصة كنزٍ عظيم وقع في يد من لم يحسن حفظه، فبدل أن يكون سببًا في نهوضه، صار لعنة تلاحقه. تبدأ القصة حين تتدفق عوائد النفط أو الغاز أو المعادن على خزائن الدولة، فتبدو وكأنها وجدت طريقها السهل إلى الثراء. ومع مرور الوقت، تتكئ السلطة على هذه الأموال المتدفقة وتغفل عن بناء قاعدة إنتاجية متينة. الزراعة تذبل شيئًا فشيئًا، والمصانع تفقد قدرتها على المنافسة، والتقنية تُهمّش لصالح الاقتصاد الريعي. وهكذا، تتحول الدولة إلى كيان يعيش على ما يأتيه من الخارج بدل أن يخلق ثروته من الداخل، ثم يظهر ما يسميه الاقتصاديون “المرض الهولندي”، وهو مرض لا يصيب الأجساد، بل الاقتصادات. فحين ترتفع قيمة العملة المحلية نتيجة تدفق الأموال، تصبح المنتجات الوطنية أغلى في الأسواق العالمية، فتفقد قدرتها على المنافسة. يتراجع التصدير، وتغزو البضائع الأجنبية الأسواق بأسعارها الأقل، فينهار ما تبقى من القطاعات غير النفطية. وهنا تكتمل حلقة الاعتماد على مورد واحد، يربط مصير الأمة بأسعار تتحدد خارج حدودها.
إن جوهر لعنة الموارد يكمن في أن الوفرة بلا حوكمة تتحول إلى عبء، والثروة بلا مؤسسات قوية تصبح نقمة. ليست المشكلة في الذهب الأسود ولا في الغاز ولا في المعادن، بل في غياب الرؤية التي تجعل منها أساسًا للتنمية المستدامة. فحين تتوفر الشفافية، وتُبنى مؤسسات ديمقراطية، ويُستثمر الريع في تنويع الاقتصاد، تتحول الموارد إلى نعمة تُخرج الشعوب من الفقر وتفتح أمامها أبواب المستقبل. أما حين تُدار بعقلية قصيرة النظر، فإنها تتحول إلى لعنة تجر الأمة إلى الخلف رغم ما بين يديها من كنوز.
هل الإسلام يرفض الاقتصاد الريعي؟
منذ فجر الرسالة، جاء الإسلام ليبني تصورًا حضاريًا متوازنًا عن المال والاقتصاد، تصورًا لا يقوم على الكسل والاتكال، بل على السعي والإنتاج والعدل. فالقرآن الكريم حينما خاطب الإنسان قائلاً: ﴿فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور﴾ [الملك: 15]، لم يرد أن يفتح أمامه أبواب الرزق فقط، بل أراد أن يربط الرزق بالحركة في الأرض، وبالجهد المبذول، وبالإبداع الذي يجعل من المال وسيلة للعمران لا أداة للتواكل.
وعلى النقيض من هذا التصور الراشد، يظهر الاقتصاد الريعي في صورته الحديثة، حيث تعتمد بعض الدول على عوائد النفط أو الغاز أو المعادن، فتغفل عن الإنتاج وتكتفي بتوزيع الريع. هذه الحالة التي يسميها علماء الاقتصاد “لعنة الموارد”، ليست بعيدة عن التحذيرات القرآنية من كنز المال وتعطيله عن التداول. يقول الله تعالى: ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم﴾ [التوبة: 34]، وهي آية تقرر أن المال الذي لا يُستثمر في نفع الناس، ولا يُزكّى ولا يُدار بالعدل، يتحول من نعمة إلى نقمة.
إن العدالة في توزيع الثروة أصل أصيل في الفكر الاقتصادي الإسلامي، فقد قال تعالى: ﴿كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم﴾ [الحشر: 7]، أي حتى لا تحتكرها فئة محدودة. بينما نرى في الاقتصادات الريعية أن عائدات الموارد تتركز غالبًا في أيدي النخب، فتُضعف المشاركة الشعبية وتفكك العقد الاجتماعي، بل وتؤدي أحيانًا إلى نزاعات وحروب. وهذا يتقاطع بشكل مباشر مع ظاهرة “لعنة الموارد” التي تعيشها بعض الدول الغنية بالثروات الطبيعية.
النبي ﷺ لم يكن بعيدًا عن هذا التصور، بل جسده في حياته. فقد عمل في التجارة، وحثّ على قيمة العمل اليدوي الشريف بقوله: “ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده”، مؤكدًا أن الاقتصاد المنتج هو الذي يرفع من شأن الأمة ويصون كرامة الإنسان. كان يدرك أن المجتمع الذي يتكل على موارد خام دون جهد، سرعان ما يفقد قدرته على الصمود، ويصبح عُرضة للتفكك والاعتماد على غيره.
من هنا يمكن القول إن الإسلام لا يرفض الريع بمعناه الطبيعي، لكنه يرفض أن يتحول إلى أساس الاقتصاد، أو أن يصبح بديلاً عن الإنتاج. فالموارد الطبيعية يمكن أن تكون نعمة إذا استُثمرت في بناء الإنسان وتنويع الاقتصاد وإرساء العدالة، لكنها تتحول إلى لعنة إذا تُركت لتغذي الفساد وتُكرس الكسل والاتكال.
إن الرؤية الإسلامية تتقاطع بعمق مع دروس علم الاقتصاد الحديث: الثروة لا تُقاس بما في باطن الأرض فقط، بل بما في يد الإنسان من فكر وجهد وإبداع. وما لم يتحول الريع إلى إنتاج، والمال إلى عمران، ستظل لعنة الموارد تلاحق الأمم، مهما بدت خزائنها ممتلئة.
هل هناك حلول؟
كثيرًا ما تُشبه لعنة الموارد شبحًا يطارد الأمم الغنية بثرواتها، لكن الحقيقة أن هذا الشبح لا يملك قوة مطلقة، بل يضعف أمام الحكمة والحوكمة الرشيدة. وإذا كانت التجارب التاريخية قد أثبتت أن الموارد قد تتحول إلى نقمة، فإنها في الوقت نفسه كشفت أن هناك حلولًا قادرة على تحويلها إلى نعمة مستدامة.
أولى هذه الحلول تبدأ من تنويع الاقتصاد. فالأمة التي تعتمد على مورد واحد كمن يسير على ساق واحدة، سرعان ما يتعثر. أما حين تُبنى ركائز متعددة – من زراعة وصناعة وتكنولوجيا وسياحة – فإن الاقتصاد يكتسب توازنًا يحميه من تقلبات الأسواق العالمية. وحين تُثمر الأرض، وتدور عجلة المصانع، ويتدفق الإبداع في مراكز البحث، تصبح الدولة أقوى من أن تسقط مع انخفاض أسعار النفط أو المعادن.
لكن الثروة الحقيقية ليست في باطن الأرض، بل في باطن الإنسان. ولهذا كان الحل الثاني هو استثمار عائدات الموارد في التعليم والصحة والبحث العلمي. فما الفائدة من آبار نفط تمتلئ بينما العقول فارغة؟ وما قيمة الذهب إذا لم يُترجم إلى معرفة وصحة وكرامة للناس؟ تجارب بعض الدول الآسيوية أثبتت أن الإنسان المتعلم، المبدع، الصحيح الجسد، أغلى من أي منجم وأبقى من أي بئر.
أما الحل الثالث فهو إنشاء صناديق سيادية شفافة تحوّل الريع المؤقت إلى استثمار دائم. وتجربة النرويج شاهد على ذلك؛ فقد استطاعت أن تجعل من النفط موردًا للأجيال المقبلة، لا مجرد مصدر لترفٍ عابر. إن مثل هذه الصناديق، إذا أُديرت بالشفافية والعدل، تحمي الأمة من جشع الحاضر، وتؤمّن مستقبل الأبناء والأحفاد.
وفي التصور الإسلامي، هناك بعد آخر يضيء الطريق، هو مؤسسة الزكاة. فهي ليست مجرد عبادة فردية، بل نظام اقتصادي يعيد توزيع الثروة، ويضمن أن المال لا يبقى حبيس فئة قليلة. الزكاة، إن أُحسنت إدارتها، تضمن دورة عادلة للمال، تخفف الفقر، وتنشط الأسواق، وتربط الثروة بالمسؤولية الاجتماعية.
لكن كل هذه الحلول لن تؤتي ثمارها إن لم تُبنَ على قاعدة صلبة من المؤسسات القوية. فالمؤسسة هي الحارس الأمين للمال العام، وهي الجدار الذي يمنع الفساد، وهي الضمانة أن القرارات الاقتصادية لن تكون رهينة نزوة مسؤول أو نفوذ نخبة.
وهكذا، فإن لعنة الموارد ليست قدرًا محتومًا. هي مجرد انعكاس لسوء الإدارة وضعف المؤسسات. فإذا وُجد التنويع، واستثمرنا في الإنسان، وأقمنا صناديق المستقبل، وفعلنا الزكاة، وشيدنا المؤسسات، تحولت الموارد إلى نعمة، والثروة إلى حضارة، والوفرة إلى رسالة للأجيال القادمة.
الخاتمة:
المؤسسات هي العمود الفقري الذي يقوم عليه كيان الدولة، وهي التي تحدد مسار الأمم بين النهوض أو السقوط. فليست الموارد الطبيعية وحدها ما يصنع المجد، ولا الأموال المتدفقة ما يضمن التنمية، بل قدرة المجتمع على بناء مؤسسات عادلة وفاعلة هي التي تضع الأساس لأي نهضة مستدامة. ولهذا يؤكد علماء الاجتماع والاقتصاد أن الفرق الجوهري بين الدول المتقدمة والمتخلفة يكمن في طبيعة مؤسساتها، لا في وفرة مواردها. وفي السياق الإسلامي، نجد أن جوهر الشريعة يؤكد على الشمولية والعدل في المؤسسات: من الزكاة التي تضمن عدالة التوزيع، إلى الشورى التي تفتح المجال للمشاركة، إلى تحريم الفساد الذي ينهك الاقتصادات، كلها تؤكد أن بناء مؤسسات شاملة هو السبيل الحقيقي لتحويل الثروة إلى تنمية.
في المقال القادم، سنمضي خطوة أبعد لنسأل: كيف يمكن للدول الإسلامية المعاصرة أن تعبر من واقع المؤسسات الاستخراجية إلى نموذج المؤسسات الشاملة؟ وما هي خارطة الطريق التي تتيح لها التحرر من أسر الريعية والفساد نحو مستقبل يضع الإنسان في قلب التنمية؟