د. بدر بن أحمد البلوشي
في زمن صارت فيه الشاشات وقنوات التواصل الاجتماعي بوابات إلى القلوب والعقول، ظهر جيل من المشاهير لا يحمل من أدوات الإعلام سوى ضجيج الصوت وصخب الصورة، يتسللون إلى المجتمع عبر إعلانات ممولة تُغري البسطاء وتوقعهم في مهالك مالية وسلوكية لا تُحمد عقباها. شهرةٌ صنعتها مقاطع التندر والضحك، حتى غدت ظاهرة تتغذى على سذاجة المتابعين، وتتمادى في العبث بقيمنا العمانية الأصيلة.
إن بعض هؤلاء المروجين لا يمتلكون مقومات العمل الإعلامي ولا لغة الإقناع، ومع ذلك يقدمون أنفسهم مرجعياتٍ طبية وتجارية وسلوكية، فيبيعون الوهم في قوالب لامعة، ويغلفون الخسارة بشعارات الخصومات والعروض.. كثيرون سقطوا في فخ الإعلانات الكاذبة؛ فأموال ذهبت هباءً، وقيم مجتمعية هُشمت، وصورة عُمان العريقة شوهها العابثون.
وما زاد الطين بلة أن مقاطعهم تتداول – ولو على سبيل السخرية – فصار التندر وقودا لانتشارهم، والجمهور نفسه هو من صنع مجدا زائفا لهذه الفئة.. إنهم يعرفون جيدا أن قلة وعي المتابعين حليفهم الأقوى، وأن الجماهير المندفعة ترفع من لا يستحق وتمنحه منصة للتأثير.
لكن الأمر لم يتوقف عند حدود التجارة أو العبث بالذوق العام، بل تعداه إلى التهكم على قرارات الدولة والتشكيك في سياساتها، متصيدين الترند في كل مناسبة ليبنوا شهرتهم على حساب هيبة مؤسسات الوطن.. يظهرون في هيئة الناصحين أو الساخرين، بينما غايتهم جذب المتابعين وزيادة الأرقام.. إنهم يلبسون لبوس الحرية، لكنهم في الحقيقة يوظفونها سلاحا للطعن في القرارات، وتأليب الرأي العام، وتقديم صورة مشوهة عن الجهد الوطني الذي تبذله الجهات المسؤولة.
لقد تحولت بعض الحسابات إلى منصات مشبوهة، تخلط الإعلان بالتهكم، والنقد بالابتذال، وتُظهر نفسها وكأنها بديل عن الإعلام الرصين أو الخبر الموثوق.. وما يُقال في دقائق قصيرة من السخرية يظل أثره أطول وأعمق من بيانٍ رسمي مدروس، فيتلقفه المتابعون على أنه الحقيقة المطلقة، بينما هو في جوهره تضليل محبوك بعناية.
المجتمع يدفع الثمن، لا فقط بخسائر مالية، بل بتسرب قيم دخيلة تهز رصانة الإنسان العماني المعروف بالهيبة والاتزان.. لقد صار بعض الشباب يظن أن طريق النجاح هو تقليد هؤلاء المشاهير، حتى لو كان على حساب السخرية من قرارات سيادية أو الاستهزاء بمسؤولين.. هنا مكمن الخطر؛ إذ لا يقف العبث عند الأفراد، بل يمس صورة الوطن ويضعف ثقة المواطن بمؤسساته.
ولعل الأمثلة كثيرة: من إعلانات مكملات غذائية أو أدوية للتخسيس لا تحمل أي ترخيص طبي، يروج لها مشاهير بلا أدنى معرفة بمخاطرها الصحية، حتى اكتشف بعض المستهلكين بعد فوات الأوان آثارا جانبية مدمرة.. إلى دعايات المطاعم والمنتجات التي تُعلن عن تخفيضات وهمية، فيكتشف الزبون أن السعر عاد كما كان بعد أيام قليلة.. بل إن بعضهم استخدم الأطفال في الترويج لسلع استهلاكية، مما حول البراءة إلى أداة تجارية، وجعل الأسرة شريكا في تضليل المجتمع.
أما الأكثر خطورة، فهو استغلال بعضهم لأحداث وطنية وقرارات حكومية للتهكم والسخرية، مثل حملات التوظيف أو تنظيم الفعاليات الرسمية، فيظهرونها على أنها عبث أو فشل، فقط ليستقطبوا إعجابات وتعليقات، دون مراعاة أن وراء هذه القرارات جهدا وطنيا ومسؤولية جسيمة. فالنقد تحول عندهم إلى نكتة، والمعالجة البناءة استُبدلت بالضحك على حساب الثقة في المؤسسات.
أين الجهات المعنية من هذا العبث المستمر؟ إن غياب الرادع القانوني أتاح المجال للجميع ليكونوا “مشاهير” بلا قيود، فصارت الساحة بلا حارس، والهوية الوطنية بلا درع يحميها.. لا بد من تشريعات تُلزم بالحصول على تصاريح، وتضع شروطا واضحة للمصداقية والنزاهة، وأيضا لمحاسبة كل من يتعمد الإساءة لقرارات الدولة تحت غطاء الشهرة.. فحرية الرأي لا تعني الإساءة، والاختلاف لا يعني تقويض الثقة الوطنية.
لقد أشار بعض المهتمين إلى أن ضعف الدور المؤسساتي في تدريب الإعلاميين وإهمال الإعلام الرقمي أسهم في هذا الانفلات.. بينما يرى آخرون أن حب الشهرة والتكسب السريع هو المحرك الأساسي، لا ندرة الوظائف.. في الحالتين، النتيجة واحدة: محتوى هزيل، وجمهور مستغل، ومجتمع يدفع الفاتورة.
المطلوب اليوم ليس جلد الذات فحسب، بل موقف جماعي.. المجتمع نفسه قادر أن يغلق الأبواب أمام هؤلاء بعدم المتابعة وعدم تداول ما يقدمونه.. الصمت عنهم أشد وقعا من نقدهم، والتجاهل أقوى من الرد عليهم، لأن الشهرة بلا جمهور تتحول إلى فراغ.
إن بناء إعلام رقمي نزيه يتطلب وعيا مؤسساتيا يوازي وعي الأفراد، فكما أن الدولة مسؤولة عن ضبط القوانين، فإن الجمهور شريك في حراسة الذوق العام.. لا بد أن نستعيد مبدأ أن الكلمة أمانة، وأن الإعلان مسؤولية، وأن الشهرة لا تُشترى بالمال بل تُكتسب بالقيمة.
إن ما يحدث اليوم ليس حرية تعبير، بل حرية عبث. بين يدي المجتمع خياران: إما أن يترك الساحة للمتلاعبين، أو أن يصنع جيلا رقميا مسؤولا يضع الإنسان قبل الإعلان، والقيمة قبل الشهرة، والوعي قبل الضجيج.. حينها فقط تتحول السوشيال ميديا من فوضى إلى منبر، ومن عبث إلى رسالة.
إن إنقاذ المجتمع من هذا الطوفان لا يكون إلا بتكاتف الجميع: مؤسسات تضبط، وقوانين تحمي، وجمهور واع يرفض أن يُستغفل.. تلك هي معركة العصر: معركة وعي، يُهزم فيها الجهل إن تكاتف العقلاء، ويُطرد فيها العبث إن نطق الضمير.