الحبيب سالم المشهور
{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]
هذه الآية الكريمة تكشف عن جوهر الحوار في أرقى صوره؛ حوار بين الخليل إبراهيم عليه السلام وربّه عز وجل، ليس عن شك في الإيمان، بل عن توقٍ لمعرفة أعمق تطمئن بها القلوب. إنها رسالة بأن السؤال، والتساؤل، وطلب البيان، كلها جزء من الطريق إلى اليقين، وأن الحوار مع الحق والحقيقة سبيل للطمأنينة.
الحوار ليس ترفًا فكريًا، بل هو حاجة وجودية تفرضها طبيعة الإنسان واختلافاته وتنوع رؤاه.
في التراث الإسلامي ارتبط الحوار بعمق الفطرة الإيمانية، إذ نجد القرآن الكريم يعرض لنا نماذج حوارية سامية بين الأنبياء وأقوامهم، وبين المؤمنين والمخالفين، حتى بين الله سبحانه وتعالى وملائكته وبني آدم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…}، وهو حوار تأسيسي يُظهر أن الإقناع والتساؤل جزء من سنّة الاستخلاف.
إن حاجتنا اليوم إلى الحوار تزداد مع تصاعد خطاب الكراهية والانغلاق الفكري. فالحوار يفتح لنا باب التعارف الإنساني الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. والتعارف كما هو معلوم لا يتحقق بالصمت ولا بالعزلة، بل بالتواصل الصادق القائم على الاحترام المتبادل.
الحوار أيضًا وسيلة للبحث عن الحقيقة؛ إذ لا يملك أحد احتكارها، بل تتجلى أنوارها حين تتلاقى العقول وتتفاعل الأفكار.
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُحاور أصحابه واليهود والنصارى والمشركين، دون أن ينقص ذلك من ثباته على الحق، بل أضفى على دعوته بعدًا إنسانيًا رحبًا. ومن دون الحوار، يتحول الخلاف الطبيعي إلى خصومة، والاختلاف إلى صراع، أما بالحوار فيتحول التنوع إلى مصدر إثراء وتكامل. ولهذا كان علماء الإسلام يجلّون أدب الجدل والحوار، ويضعون له القواعد التي تصون كرامة المتحاورين وتُبقي باب الفهم مفتوحًا.
عوائق الحوار
رغم وضوح قيمة الحوار، إلا أن موانع عديدة تعوقه: التعصب الفكري والمذهبي حين يتحول الرأي إلى عقيدة مغلقة، والخوف من النقد الذي يجعل البعض يتجنب الحوار خشية فقدان سلطته أو صورته، إضافة إلى اللغة العدائية التي تغلق الأبواب قبل أن تُفتح، وأخيرًا غياب الثقة الذي يحول دون بناء أرضية مشتركة للتفاهم.
مقومات نجاح الحوار
ولكي يكون الحوار ناجحًا، فهو يحتاج إلى إخلاص في النية وصدق في المقصد، والقدرة على الإصغاء العميق واحترام الطرف الآخر، كما يقوم على العلم والحجة الرصينة بعيدًا عن الجدل العقيم.
والحوار الحق لا يسعى لإلغاء الاختلاف بل لإدارته بحكمة وعدل، ويظل مفتوحًا على المرونة وقابلية التنازل من أجل الوصول إلى مساحة مشتركة من الفهم والتفاهم.
رؤية عملية لتعزيز ثقافة الحوار
لتتحول الدعوة إلى الحوار من خطاب إلى ممارسة، نحتاج إلى:
1. إدماج مهارات الحوار في التعليم: تعليم الطلاب منذ الصغر فنون الإصغاء واحترام التعددية.
2. إطلاق منصات حوارية مجتمعية: مجالس فكرية وملتقيات مفتوحة تجمع المختلفين وتدير نقاشاتهم بروح بنّاءة.
3. خطاب ديني متسامح: يعيد إبراز القيم القرآنية والنبويّة التي تحتضن التنوع وتدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة.
4. إعلام هادف: يفسح المجال لوجهات النظر المختلفة دون تشويه أو تحريض.
5. قدوات حوارية: شخصيات قيادية وفكرية تترجم ثقافة الحوار عمليًا في حياتها العامة والخاصة.
وفي الختام، يكفينا أن نستلهم التوجيه القرآني البديع الذي يلخص جوهر الحوار:
{ادْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فالحكمة، واللين، والجدال بالتي هي أحسن، هي الأساس الذي يمكن أن يقودنا إلى مجتمع أكثر فهمًا وتسامحًا ووحدة، والله من وراء القصد.