عصماء بنت محمد الكحالية/ كاتبة عُمانية
في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتتناقص فيه المعاني، يجد المثقف نفسه في موقف لا يُحسد عليه:
مُتهمٌ بالصمت حين يتأمل، وبالثرثرة حين يكتب، وبالانعزال حين يرفض الانخراط في الضجيج.
إنه غريب،
لا لأنه فوق الناس، بل لأنه يرى ما لا يريد الآخرون رؤيته، ويسأل ما لا يحبّ الناس أن يُسأل.
في مجتمعاتٍ تحوّلت فيها المعرفة إلى محتوى، والكتب إلى ديكور، والوعي إلى وسيلة ترويج،
يصبح المثقف كائنًا خارج المعادلة…
لا لأنه متعالٍ، بل لأن المعادلة نفسها لم تُصمَّم لتحتمل من يشكّك فيها.
من هو المثقف اليوم؟
ليس بالضرورة ذاك الذي يحمل لقبًا أكاديميًا، أو ينشر كتابًا كل عام.
المثقف الحقيقي اليوم هو من يرفض السطح، ويتشبث بالمعنى،
ويُصغي جيدًا لصوت الحقيقة حتى في العاصفة.
هو من يمارس الشكّ لا كهدم، بل كأداة بناء.
هو من يحمل قلقه كراية، لا كعار.
هو من يعلم أن التصفيق لا يعني الصواب، وأن الترند لا يعني القيمة.
اليوم تتحول :
الكلمة… من رسالة إلى سلعة
لم تعد الكلمة كما كانت.
في عالم تحكمه الخوارزميات، فقدت الكلمة سلطتها، وتحوّلت إلى مادة استهلاك سريعة.
الكتابة التي كانت فعلًا وجوديًا، غدت أداة ترفيه، ومجرد سلعة في سوق الإعلام الجماهيري.
حتى القارئ لم يعد كما كان.
صار يطلب فكرة في 15 ثانية، لا رحلة فكرية من 150 صفحة.
ويبدو أن الجملة العميقة لم تعد تُقنع، إن لم تُرفق بصورة جذابة أو موسيقى درامية.
لماذا لا يستسلم المثقف؟
لأن الصمت ليس خيارًا.
لأن المثقف يدرك أن الهزيمة الحقيقية ليست حين يُساء فهمك، بل حين تكفّ عن المحاولة.
ولأن في داخله إيمانًا بأن الكلمة، رغم كل شيء، ما زالت تحمل إمكانية الخلاص.
لذا يكتب.
يكتب كما يزرع البذرة في أرض قاحلة.
لا يتوقع حصادًا سريعًا، لكنه يؤمن أن المعنى لا يموت، حتى في زمن “اللا معنى”.
ويا أيها المجتمع…
في زمنٍ يتمّ فيه التضييق على الفكر لحساب الترفيه، علينا أن نسأل أنفسنا:
هل نريد مجتمعات تفكر، أم تستهلك فقط؟
هل نُريد أبناءً يطرحون الأسئلة، أم يرددون ما يُقال لهم؟
هل نحن مستعدّون لأن نستمع إلى من يخالف السائد، لا من يكرره؟
إذا كان الجواب نعم، فعلينا أن نعيد الاعتبار للمثقف:
لا كشخص، بل كقيمة.
كمشروع للوعي، لا كرمز للنخبة.
وأن نمنحه المساحة ليكتب، ليصرخ، ليصمت… ليكون صوتًا لما خُفي وسط ضجيج المشهد.
المثقف لا يسعى للنجومية، بل للبقاء.
ولا يكتب ليُدهش، بل ليُنقذ حتى لو أنقذ نفسه فقط.
وربما، ذات زمنٍ قادم،
حين تخفت الأصوات العالية،
سنكتشف أن الكلمة التي كُتبت بصمت، كانت أصدق من كل ما صرّح به الصاخبون.
ويا أيها الأدباء…
لا تنتظروا اعترافًا من زمنٍ لا يعترف إلا بمن يصرخ أعلى.
اكتبوا لأن الكتابة فعلُ نجاة.
اكتبوا كما لو أن العالم على وشك السقوط،
والكلمة هي الحافة الأخيرة.
اكتبوا كما تُضاء شمعة في نفق… لا لترى، بل لتدلّ.
فلعلّ المجد القادم لا يكون لأصحاب الصوت الأعلى، بل لأصحاب الفكرة الأعمق.