يعقوب الخنبشي/ كاتب وأديب
لطالما ارتدت أوروبا قناع القيم الإنسانية، واكتست بثياب العدالة، وأرعدت باسم حقوق الإنسان والطفل، متصدّرة المشهد العالمي كمركز للضمير الحيّ. غير أنّ ما جرى ويجري في الشرق الأوسط، وخصوصًا منذ تفجّر العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، قد كشف عن شروخ عميقة في هذا القناع، وأماط اللثام عن وجه آخر لأوروبا، وجهٍ ممتلئ بالتناقضات، متقلبٍ بين براغماتية المصالح، وتململ الضمير، وتغير الجغرافيا السياسية العالمية.
إن الانتقادات المتصاعدة التي تبثّها قنوات الإعلام الغربي، من “بي بي سي” إلى “لوموند” و”واشنطن بوست”، تجاه السياسات الإسرائيلية في فلسطين، ليست وليدة صحوة ضمير مفاجئة، ولا انكشاف متأخر لحقيقة الاحتلال الطويل. فالجرائم التي تقترفها إسرائيل، من حصار وتجويع وتجريف للمنازل وقتل ممنهج للمدنيين، كانت وما زالت موثقة في تقارير المنظمات الدولية منذ عقود، من “هيومن رايتس ووتش” إلى “أمنستي”. لكن، ما الذي تغير إذًا؟
أولًا: لا بدّ من الإشارة إلى تغير المزاج الشعبي الأوروبي، لا سيما بين الأجيال الشابة، التي لم تعد تنظر إلى إسرائيل كـ”دولة ديمقراطية وسط صحراء الاستبداد”، بل كقوة استعمارية تنتهك القوانين الدولية. لقد أفرزت وسائل التواصل الاجتماعي جيلًا لا يتغذى على الرواية الرسمية، بل يبني وعيه على صور المجازر المباشرة، وشهادات الضحايا، ومقاطع الهروب تحت الأنقاض. ومن هنا، اضطرت وسائل الإعلام الكبرى، خشية فقدان مصداقيتها وسوقها، إلى التكيف مع هذا التحول، وإن كان بحذر وتدرج.
ثانيًا: تراجع سطوة المصالح الاقتصادية القديمة مع إسرائيل، وبروز شركاء جدد لأوروبا في الخليج والصين، قد غيّر من ميزان الأولويات. فبعد اتفاقيات “أبراهام” وارتفاع حرارة العلاقات العربية الأوروبية، أصبحت مصالح أوروبا في المنطقة العربية أكثر حساسية من أي وقت مضى. وقد أشار تقرير صادر عن “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” (2024) إلى أن أكثر من 65٪ من المصالح التجارية الأوروبية في الشرق الأوسط أصبحت ترتبط بدول الخليج وشمال إفريقيا، مما يتطلب خطابًا إعلاميًا أقل انحيازًا، وأكثر توازنًا، حتى لا تفقد أوروبا فرصها الاستراتيجية.
ثالثًا: هناك متغير مهم يتمثل في انكفاء الدور الأمريكي التقليدي في المنطقة، وخصوصًا في ظل عودة ترامب المحتملة إلى المشهد السياسي الأمريكي. لقد شكّلت سياسات ترامب، وتحالفه غير المشروط مع إسرائيل، عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا على الحلفاء الأوروبيين، ما دفع بعضهم إلى السعي لبناء خطاب مستقل. من هنا نفهم بعض المبادرات الأوروبية المتأخرة، مثل الدعوات إلى وقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، والاعتراف بدولة فلسطين من قبل دول مثل إيرلندا وإسبانيا والنرويج.
لكن، هل كل هذا التحول تعبير عن صحوة ضمير أوروبية؟ الجواب: لا يمكن الجزم بذلك. فالضمير حين يصحو لا يختار توقيتًا مناسبًا أو ظرفًا مواتيًا، بل يثور على الظلم متى أدركه. ما نراه اليوم هو مزيج من ضغط جماهيري متزايد، ومصالح متحركة، وانكشاف الوجه البشع للاحتلال، لم يعد قابلاً للتجميل أو التبرير. إن السكوت الطويل، والتواطؤ التاريخي، ما زالا يُثقلان كاهل أوروبا الأخلاقي، ولا يمكن لتصريحات متأخرة أو تغطيات صحفية انتقائية أن تغسل العار المتراكم.
بل إنّ هذا الوجه الجديد ـ أو قل الوجه الحقيقي ـ قد أسقط كثيرًا من الأوهام التي عاشتها الشعوب العربية، والتي طالما نظرت إلى أوروبا على أنها حاملة مشعل الحرية. لقد سقط القناع، وتجلّى أن أوروبا لم تكن دائمًا تلك السيدة الرشيقة التي تتغنّى بالحريات، بل كانت، في كثير من الأحيان، متواطئة، أو صامتة، أو مستفيدة من آلام الشعوب المغلوبة.
في النهاية، لسنا أمام تبدّل جذري في المبادئ، بل أمام ارتباك في التموضع، وتحول في المصالح، وضغط في الشارع، يدفع أوروبا إلى مراجعة خطابها لا جوهرها. أما صحوة الضمير، فهي ما تزال مؤجلة، تنتظر ثورة حقيقية، لا فقط في الإعلام، بل في الساسة والبرلمانات والضمائر التي لا تخشى فقدان الامتياز، إذا ما ارتضت قول الحق.