زكريا بن عامر بن سليمان الهميمي.
*تمهيد:
تناولنا في الجزء الثاني أسباب سلوك الإسراف لدى الفرد والجماعة، وتتناول هذه الصفحات في الجزء الثالث منها أقسام الإسراف بشقيه المادي والمعنوي، وعدد من مظاهر الإسراف المادي لدى بعض الأفراد والمجتمعات.
أولا: أنواع الإسراف:
يمكن تقسيم سلوك الإسراف – من حسب وجهة نظرنا- بناء على قراءة نماذج من واقع المجتمع إلى نوعين رئيسين هما:
1- الإسراف المادي أو (الإسراف الظاهر): وهو الإسراف المحسوس الذي تشاهد مظاهره في البيئة الاجتماعية، ومن خلال مشاهدته يمكن الحكم عليه بكونه إسراف مادي، فهذا النوع من الإسراف يتعامل مع عناصر ظاهرة محسوسة ومشاهدة في البيئة لها آثار ملموسة.
2- الإسراف المعنوي: (أو الإسراف الباطن): وهو الإسراف الذي لا يمكن ملاحظته أو الاستدلال على آثاره مباشرة، وإنما هو سلوك باطن خفي تظهر آثاره في وقت لاحق في البيئة الاجتماعية، وهذا النوع من الإسراف قد يجر صاحبه إلى سلوك الإسراف الظاهر. وتقسيم الإسراف إلى مادي ومعنوي ربما لا يحدث تمايزا أو اختلافا كبيرا في ذهن القارئ وذلك لتداخل نوعي الإسراف المادي والمعنوي مع بعضهما البعض حتى يكاد أن نجد فرقا كبيرا بينهما، فالإسراف المعنوي الباطن بنفسه له مظهران: معنوي: يتمثل في النية ذات القصد الباطني في نفس الفرد، ومظهر مادي يتمثل في الآثار المشاهدة في واقع البيئة والناتجة عن الإيمان بمثل هذا السلوك في نفسية الفرد، ولكن ارتأينا تقسيم الإسراف إلى هذين النوعين تقريبا لفهم القارئ، وسيقتصر الحديث في هذه الصفحات على النوع الأول وهو الإسراف المادي.
ثانيا: نماذج من الإسراف المادي:
يظهر الإسراف المادي في واقع الفرد والمجتمع في عدة مظاهر مشاهدة في العالم الواقعي (البيئة الاجتماعية والبيئة الاقتصادية)، ومن الأمثلة على هذا النوع من الإسراف:
1- الإسراف في رمضان:
يعد سلوك الإسراف أحد المظاهر المرتبطة بهذا الشهر لدى بعض الأفراد والأسر في مجتمعاتنا المعاصرة، ويتمثل الإسراف في هذه المناسبة في ازدياد معدلات استهلاك الأغذية والمشروبات بإسراف، كما يشتري البعض الكثير من الأطعمة التي تزيد عن حاجة الفرد وحاجة الأسرة ما يؤدي إلى رمي العديد من تلك الأطعمة في حاويات القمامة.
وهنالك العديد من الأسباب الكامنة وراء انسياق البعض إلى سلوك الإسراف في هذا الشهر نذكر منها:
أ- الاستغلال التجاري: إذ تعمد بعض المؤسسات الإنتاجية والمروجين وباعة السلع الاستهلاكية وغيرها من السلع الأخرى هذه المناسبة الدينية باعتبارها موسما مناسبا لتحقيق ربح كثير وسريع، يلجأ من خلالها أؤلئك إلى الترويج إعلانيا وبشكل موجه ومبرمج للعديد من المنتجات والسلع عبر وسائل الدعاية والإعلان المختلفة خاصة وسائل التواصل الاجتماعي والعروض التجارية الخاصة، والتفنن في توفير وعرض مختلف الأصناف خاصة الأطعمة والمشروبات واعتبارها سلعا استهلاكية خاصة بهذه المناسبة الدينية.
ب- العامل النفسي والبدني المؤثر: يلعب العامل النفسي دورا مهما في الإسراف في رمضان لدى البعض، فالساعات التي يقضيها المسلم في الصوم في هذا الشهر وما قد يعانيه الفرد من إحساس بالجوع والعطش باعتبارهما أحد الدوافع النفسية تجعل النفس تتطلع إلى موعد الإفطار فتزداد معه الرغبة في الإسراف بشراء واستهلاك كميات كبيرة من الأطعمة والمشروبات من أجل إشباع حاجة النفس البشرية ولو بشكل مفرط، وهنا يكمن دور الفرد في ضرورة كبح جماح النفس وفقا لسلوك التوسط والاعتدال.
ج- تجاهل المقصد الحقيقي من عبادة الصيام: لدى بعض الأفراد سوء فهم في تطبيق القيم الدينية والروحية المرتبطة بهذا الشهر، فالبعض يفهم أن المقصود بالصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات في فترة النهار، ثم إطلاق العنان للنفس البشرية أكلا وشربا بإفراط طوال الليل، مع تجاهل قيم الاعتدال والتوسط وباقي القيم الروحية التي تسعى عبادة الصيام إلى غرسها في النفس.
د- سوء استغلال الوقت في ليالي رمضان: فنتيجة لعدم الاستغلال الأمثل من قبل البعض لفترة الليل في أنواع مختلفة من العبادات والطاعات ومن خلال عدم التخطيط والتنظيم الجيد لليالي رمضان، اتجه البعض إلى تحويل ليالي شهر رمضان إلى أوقات تستغل في الإفراط في الطعام والشراب.
هـ- اعتبار رمضان مناسبة للتغيير والتجديد المادي: من المألوف أن يستعد الفرد للمناسبات التي تمر في حياته استعدادا يتسم بالتغيير والتجديد، لكن هناك من يعتقد أن رمضان مناسبة للتغيير والتجديد المادي كهدف رئيس فيغير من نمط معيشته المادية كليا فيغير مثلا من نوع طعامه وشرابه وجوانب أخرى من حياته المادية، حتى لو أثر ذلك تأثيرا سلبيا على معدل دخله المالي.
2- الإسراف في مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف:
تقام في بعض المجتمعات احتفالات كبرى بهذه المناسبة الدينية حيث تقدم فيها الولائم التي تحوي العديد من أصناف الطعام والشراب تصل إلى حد الإسراف والتبذير. وهذا السلوك ناتج عن سوء فهم للأبعاد الروحية لهذه المناسبة فبدل أن يكون هذا الاحتفال فرصة لتذكير النفوس بعظمة أخلاق المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وسيرته العطرة بهدف الاقتداء بشمائله، يطغى الجانب المادي على هذا الاحتفال فيفقده هدفه الديني والروحي الأسمى.
وتطالعنا صفحات التاريخ بنموذج للإسراف في هذه المناسبة الدينية إذ يذكر الشيخ أبو إسحاق إبراهيم أطفيش( ت: 1965م) في مقدمته لكتاب المولد المسمى:” النشأة المحمدية” هذه الرواية التاريخية : ” وأول من ابتدع الاحتفال الرسمي من قبل الحكومات مظفر الدين أبو سعيد صاحب أربل من قبل صلاح الدين الأيوبي ، وكان صاحب أربل منفاقا للمال محبا للمظاهر، وكان ينفق في الاحتفال المولدي الآلاف من الدنانير، ويذبح الأعداد الوفيرة من الإبل والبقر والغنم ، بعد أن تزف بالطبول والأغاني إلى الساحة التي تذبح فيها ، فتنصب القدور وتطبخ بلحومها الألوان ، ويخلع يوم المولد الخلع السنية على الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء “(1).
3- الإسراف في مناسبة الزواج:
ينتج سلوك الإسراف في هذه المناسبة عن سوء فهم القيم الأخلاقية والدينية والنفسية ذات الأهداف النبيلة التي يحققها الزواج وربطه بمظاهر مادية بحتة لا تنتج إلا أثارا سلبية اجتماعية ونفسية واقتصادية على الفرد والأسرة والمجتمع من بينها تفشي الديون التي لا طائل من ورائها والتي تؤثر سلبا على الحياة الزوجية والاستقرار النفسي للزوجين ولأبنائهما من بعد. ويتمثل الإسراف في هذه المناسبة في عدة مظاهر هي:
أ- غلاء المهور: قد ينتج عن الاعتقاد الخاطئ لدى البعض كثقافة اجتماعية بأن المهر هو المقياس الحقيقي الوحيد لمكانة المرأة وقيمتها المجتمعية فهو المحدد لمستواها الاجتماعي والاقتصادي، فيتم قياس قيمة النفس البشرية بمقياس مادي بحت مع تجاهل القيم المعنوية الأخرى، كما قد يلعب التقليد الأعمى للغير بقصد المباهاة دورا في هذا الجانب: إذ يتباهى البعض في المجتمع بأن مهر ابنتهم هو أغلى المهور في المجتمع بقصد المباهاة ومجاراة بعض الثقافات المادية السائدة في المجتمع.
ب- فرض شروط مادية باهظة لإتمام الزواج: إذ يشترط البعض على الزوج شروطا مادية باهظة قد تثقل كاهله دون مراعاة لقدراته المالية ومستوى دخله الاقتصادي، وقد يلجأ بسببها للاقتراض من المؤسسات الإقراضية، فهناك من يشترط توفير مسكن ذو مواصفات مكلفة ماديا، إضافة إلى توفير هدايا كثيرة تكلف الشيء الكثير، والإسراف في شراء الذهب والمجوهرات دون مراعاة حجم الدخل الفعلي، وتلك السلوكيات ناتجة عن الاهتمام المتزايد بعالم الماديات على حساب سلوك التوسط والاعتدال.
ج- المغالاة في إقامة حفلات الزواج: ومن مظاهر تلك المغالاة إقامة مراسم حفلات الزواج في أماكن معينة تعد مكلفة ماديا دون مراعاة للقدرات المالية التي يستطيع الزوج تحملها، وإقامة ولائم الأعراس بشكل تسود فيها سلوكيات التبذير، وهناك من يلجأ للاقتراض من أجل الإيفاء بتكاليف وليمة العرس، مع الفهم الديني الخاطئ لوليمة العرس والتي يجب أن تكون مبنية دينيا على سلوك التيسير في الإنفاق اعتمادا على سلوك التوسط والاعتدال.
4- الإسراف في مناسبات الأعياد: تعد الأعياد مظهرا من المظاهر الاجتماعية التي تبعث في النفوس البهجة والسرور، ولكنها تحولت لدى البعض إلى التركيز على الماديات خلافا لفلسفة العيد والتي توازن بين الجوانب النفسية والمادية للفر المبنية على مبدأ التوسط والاعتدال.
ومن الأمثلة على مظاهر الإسراف في هذه المناسبة شراء البعض للكثير من احتياجات العيد دون مراعاة لدخل الفرد ودون الحاجة الفعلية لها، وقد يلجأ البعض للاقتراض لتغطية التكاليف المادية الباهظة لهذه المناسبة، كما تسود مظاهر الإسراف الغذائي في أيام الأعياد إذ تقدم العديد من أصناف الطعام والفاكهة واللحوم وغيرها من الأصناف بشكل بعيد عن حدود سلوك الاعتدال والتوسط.
5- الإسراف في أيام العزاء:
من المعلوم أن أيام العزاء أيام تتسم بالحزن على الفقيد، ولكن قد يقوم بعض أصحاب العزاء بتقديم الولائم للمعزين أيام العزاء مع ما يصاحبها من تبذير وإسراف خلافا للسنة النبوية والتي تقتضي أن يصنع لأهل الميت الطعام ويرسل إليهم. وقد يتم الإنفاق على تلك الولائم من أموال الورثة الأيتام الذين لا يملك أحد التنازل عن حقهم في هذه الأموال حتى يصلوا إلى سن البلوغ فيتم الإضرار بمال الأيتام.
وإضافة إلى ذلك، فقد أدى ذلك الانفاق غير المعتدل في أيام العزاء ببعض أصحاب العزاء إلى الاقتراض لتغطية تكاليف أيام العزاء، مما أضاف لهم عبئا ماليا نتيجة لتطبيق بعض التقاليد المجتمعية المخالفة للمنهج المبني على سلوك التوسط والاعتدال.
وفي التاريخ الاجتماعي للمجتمع حول ظاهرة الولائم في مناسبة العزاء يقول الإمام نور الدين عبد الله السالمي (ت: 1914م) مبينا خطأ ما يقوم به أصحاب العزاء من إعداد الولائم في أيام العزاء في زمانه – ويصدق هذا على كل زمان – (2):
وسنة الإطعام أيام العزا خلاف فعل الناس مع من ميزا
جيران من أصيب يرسلونا لهم طعاما منه يأكلونا
لأنهم عن العلاج شغلوا بحزنهم على فقيد ثكلوا
هذي هي السنة أيام النبي لكنها قد عكست في العرب
فصار أهل البيت يطعمونا من جاء نحوهم معزيينا
جاءوا يعزون فزادوا هما وأكلوا التراث أكلا لما
وعاونوا مصائب الزمان بحملهم على المصاب العاني
فالموت بالأرواح منا انقلبا والمال بالعزاء عنا ذهبا
6- الإدمان على التدخين:
يعد الانفاق على التدخين أحد مظاهر الإسراف المالي لدى الكثير من الأفراد في المجتمع، وهذا الإنفاق ناتج عن عدم تقدير القيمة الاقتصادية للمال في النفس، والذي يؤدي بدوره إلى عواقب وخيمة على صعيد اقتصاد الفرد.
فالمدمن على التدخين ينفق مبالغ طائلة على عملية التدخين فيستهلك جزءا من كبيرا من دخله الفردي، وإنفاق رب الأسرة الأموال على التدخين غالبا ما يجعله مقصرا في معدل إنفاقه على أفراد أسرته، بل وحتى انفاقه على نفسه في بعض حاجياته الضروريات المعيشية، وبجانب ذلك فالكثير من أسر مدمني التدخين يعانون من تدني المستوى المعيشي نتيجة إسراف رب الأسرة المدمن وإنفاقه الأموال على عادة التدخين.
7- الإدمان على المسكرات والمخدرات والمؤثرات العقلية:
يعرف الإدمان بأنه: ” نمط سلوكي ومعرفي يقوم على الاعتماد على مادة / مواد مؤثرة عقليا ويكون مصحوبا برغبة جامحة لتعاطيها ونزعة داخلية شديدة لتوفير هذه المادة والاستمرار في هذا السلوك على الرغم من المعرفة بالمضار الناتجة عن هذا التعاطي ” (3).
والإدمان على تلك المواد يعد من أسباب الإسراف في المال، فالمدمن تظهر عليه العديد من الأعراض ومن بينها المطالبة المستمرة للمال من أفراد الأسرة بدون سبب واضح أو اللجوء إلى الحصول على المال بطريقة غير مشروعة، فالمدمن قد ينفق كل ما لديه من مال من أجل الحصول على المواد الكحولية أو المواد المخدرة والمؤثرات العقلية، وقد يكون المدمن ربا لأسرة فلا ينفق على أسرته، بل يبذر ماله للحصول على تلك السموم مما يؤدي إلى عواقب أسرية واجتماعية واقتصادية وخيمة قد تحيط بأسرة المدمن.
8- الإسراف في اقتناء الكماليات:
قد يبالغ البعض في شراء واقتناء السلع الكمالية حال رؤيتهم لشيء جديد مطروح للبيع نتيجة انسياقهم العاطفي النفسي غير المخطط له مسبقا وبلا تفكير اقتصادي واقعي متزن، فلا يملك بعضهم إلا شراء تلك السلع الكمالية وهو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح” الصدمة الشرائية “، وقد يكون اقتناء الكماليات لدى البعض أحيانا على حساب اقتناء الضروريات مما يؤدي بالفرد أو الأسرة إلى تبذير المال في اقتناء تلك السلع والمنتجات على حساب الاحتياجات الضرورية المعيشية بسبب نزعة عاطفية سريعة في النفس.
9- الإسراف في الطعام والشراب:
الإسراف في الطعام هو أحد السلوكيات لدى البعض في المجتمعات المعاصرة، حيث يتم رمي كميات كبيرة من المواد الغذائية في صناديق القمامة، وتشير نتائج دراسة تمت عن قمامة إحدى الدول ( 1982 م) ، أن معدل كمية قمامة الفرد : واحد ونصف كيلو جرام يوميا ، ومحتويات القمامة نسبنها كما يلي : 55 % مواد غذائية ، 30 % كرتون وورق ، 5 % خشب ، والنسبة الباقية زجاج وحديد وبلاستيك ، بينما نجد أن معدل قمامة الفرد في انجلترا نصف كجم ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية ثلاثة أرباع كجم يوميا ، وهذا يدعونا إلى إعادة النظر حول عاداتنا الغذائية وسلوكنا الغذائي البعيد عن التوسط والاعتدال في استهلاك الغذاء.(4) ” وتشير بعض الدراسات الأخرى التي أجريت في إحدى الدول أن ما يلقى ويتلف من مواد غذائية ويوضع في صناديق القمامة كبير إلى الحد الذي قد تبلغ نسبته في بعض الحالات 45% من حجم القمامة، وفي إحدى المدن أظهرت دراسة عن نفايات إحدى المدن أن كمية النفايات اليومية لكل فرد من نفايات المواد الغذائية تبلغ 1060 جراماً، والملاحظ في بعض الدول ذات الدخل المرتفع أن كمية المواد الغذائية التي تلقى في القمامة كبيرة جداً بالمقارنة مع غيرها من دول العالم ” (5).
وللإسراف في الطعام العديد من المظاهر في المجتمع منها:
أ- تناول كميات كبيرة من الطعام تفوق حاجة الجسم الضرورية: خاصة السكريات مما يؤدي لإصابة الجسم السمنة Obesity، ومن ثم تعريض الجسم للإصابة بالكثير من الأمراض الناتجة عن الإسراف في الغذاء.
ب- شراء كميات من الطعام تفوق حاجة الفرد: ويكون مصير تلك الأطعمة صناديق القمامة.
ج- طبخ كميات كبيرة من الطعام تفوق حاجة أفراد الأسرة: نتيجة عدم الاهتمام بالكمية المناسبة لما قد يستهلكه الفرد فعليا في الأسرة من غذاء، فيتبقى الكثير من الطعام الذي يرمى في النهاية في صناديق القمامة.
د- تبذير المال في شراء أطعمة ذات قيمة غذائية منخفضة، أو قد تضر بالصحة: فهناك من يستهلك كميات كبيرة من المشروبات الغازية بلا ضابط، وثبت طبيا وعلميا أضرارها على صحة الجسم إذا تم تناولها بكميات كبيرة وبشكل يومي، كما أن هناك أطعمة الوجبات السريعة التي تلقى رواجا كبيرا ويعتمد عليها البعض في طعامهم بشكل رئيس بالرغم من قيمتها المالية الكبيرة وانخفاض قيمتها الغذائية وما قد تسببه من أضرار على صحة الجسم.
يقول الإمام نور الدين السالمي (ت: 1914م): (6).
لا تسرفوا في الأكل والشراب * فعنه جاء النهي في الكتاب
وإنما الإسراف مــــــا قد زادا * عن شبع فحاذر ازديادا
10- الإسراف في الملابس:
الملابس ضرورة فطرية في حياة الإنسان إلا أنها في الوقت نفسه تعد مظهرا من مظاهر الشخصية التي تدل على سلوك الإنسان وطبيعته النفسية ومكانته الاجتماعية.
” فتشير ملابس الفرد إلى سلوكه ، فتؤثر في ثقته بنفسه ، وتقييمه لنفسه وتفاعله الاجتماعي ، … ولقد استخدمت بعض نظريات علم النفس المعروفة ، وبخاصة تلك المتعلقة بموضوع الشخصية في تفسير العلاقات بين الملابس وسلوك الإنسان ، وفي بداية القرن العشرين أخذ علماء النفس وعلماء الاجتماع بتحليل تأثير الشخصية على الملابس ، يقول عالم النفس وليم جيمس : ” إن النفس مركز الشخصية وأساسها ” ، وقد قسم جيمس النفس إلى ثلاثة أقسام هي : النفس أو الأنا المادية ، والنفس الاجتماعية ، والنفس الروحية ، وبين أن القول الشائع : ” الفرد عبارة عن روح وجسم وملابس ” ليس نكتة ، لأنه لو خير الإنسان بين أن يكون مرتبا وأنيقا أو عكس ذلك ، فإنه لن يتردد لحظة في اختيار الاحتمال الأول “(7) .
ومن مظاهر الإسراف في الملبس لدى الفرد في المجتمع:
أ- شراء وتفصيل ملابس غالية الثمن تفوق القدرة المالية للفرد أو للأسرة: محاكاة وتقليدا لبعض الأفراد الآخرين لأجل الشهرة وبقصد مجاراة الثقافة الاستهلاكية في المجتمع.
ب- الإسراف في تفصيل وشراء الملابس المخصصة للمناسبات: كمناسبات الزواج والأعياد بشكل مبالغ فيه، ودون مراعاة لمستوى دخل الفرد أو الأسرة.
ج- الرغبة في التجديد وإتباع الموضة المستمر: من خلال شراء ملابس جديدة واعتبار الملابس التي تم تفصيلها أو شراؤها سابقا ملابس قديمة يجب التخلص منها دون مراعاة لمدى تأثير ذلك على ميزانية الشراء لدى الفرد أو الأسرة. وقد تلعب بعض دور عرض الأزياء والشركات والمؤسسات التجارية دورا مهما في الترويج لثقافة الملابس غالية الثمن من خلال تصميم أحدث الموضات والتصاميم في عالم الملابس لجذب عاطفة الزبائن بشكل موجه ومبرمج، وهنا تكمن أهمية الوعي الذاتي لدى الفرد في اتخاذ القرار المناسب للشراء من عدمه وفقا لإمكانياته وقدراته المالية وفي حدود سلوك التوسط والاعتدال.
11- الإسراف في الدواء:
الدواء له أضرار على الصحة إذا أسرف الفرد في استهلاكه وبلا وصفة طبية، كما قد يؤثر الدواء على ميزانية الفرد، ومن مظاهر الإسراف في الدواء:
أ- أخذ جرعات دوائية كبيرة وزائدة عن الحاجة: ظنا بأن الجرعات الدوائية الكبيرة تقضي على المرض بشكل أسرع، وهذا اعتقاد خاطئ إذ أن لكل مرض جرعات دوائية محددة مصممة بطريقة طبية ناتجة عن أبحاث معملية معتمدة في عالم الطب.
ب- استهلاك بعض أنواع الأدوية بشكل مفرط وبلا وصفة طبية: ومن بين تلك الأدوية المضادات الحيوية (Antibiotics)، التي ثبت علميا أن جهاز المناعة يطور مقاومة ضدها في حال استهلاكها بشكل كبير مما يضعف تأثير الجهاز المناعي، كما أن هناك بعض الأدوية التي إذا استهلكت بإفراط ولمدة طويلة وبلا وصفة طبية قد تؤدي للإدمان.
12- الإسراف في استهلاك الكهرباء والمياه:
ينتج الإسراف في استهلاك الكهرباء والماء عن عوامل عدة منها:
أ- غياب قيم الاعتدال والتوسط لدى بعض الأفراد والأسر: نتيجة انعدام تطبيق القيم الدينية والأخلاقية المبنية على مبدأ التوسط والاعتدال في الاستهلاك.
ب- التصور الخاطئ باستمرارية الكهرباء والمياه بلا انقطاع: فهناك من لا يحس بنعمتي الكهرباء والمياه إلا حين انقطاعهما، فهو لا يبالي بالإسراف فيهما ما دام يدفع فاتورة استهلاكه آخر الشهر ظنا منه بأنهما مستمران لا ينقطعان، متجاهلا بذلك أن الإسراف فيهما قد يؤدي إلى انقطاعهما عنه وعن غيره نتيجة الاستهلاك غير المبرر.
ج- ازدياد معدل دخل الفرد واعتباره مبررا للاستهلاك: فالبعض من ذوي الدخل المرتفع، لا مشكلة لديه في استنزاف الكهرباء أو المياه بشكل مفرط مادام سيدفع فاتورة الاستهلاك آخر الشهر، متجاهلا بذلك القيمة الذاتية لنعمتي الكهرباء والمياه والتي يقتضي الواجب الأخلاقي الحفاظ عليهما والاعتدال في استخدامهما.
د. النشأة الاجتماعية والتربية الخاطئة: ففي بعض الأسر لا يتم تربية الأبناء على قيم المحافظة على الموارد الطبيعية، فلا يشعر الفرد داخل الأسرة بالمسؤولية تجاه نعمتي الكهرباء والمياه، فيسود الإسراف في التعامل مع نعمتي الكهرباء والمياه نتيجة للتربية والنشأة الاجتماعية الخاطئة.
هـ- استخدام أجهزة تستهلك معدلات كبيرة من الكهرباء والمياه: حيث يقبل البعض على شراء بعض تلك الأجهزة كبعض أجهزة غسيل الملابس التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، وأجهزة تجفيف الملابس التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة الكهربائية، مع أنه بالإمكان تعريض الملابس للشمس لتجف، وهناك بعض أجهزة غسيل الأطباق تستهلك كميات وفيرة من المياه، مع أنه بالإمكان غسيل الأطباق باليد.
و- الأزمات النفسية: فبعض الأزمات النفسية التي قد يتعرض لها الفرد تدفعه إلى الإسراف في استهلاك الكهرباء والمياه بشكل مفرط وغير مبرر كنوع من الانسحاب النفسي هروبا من الواقع النفسي المؤلم، وإضافة إلى ذلك تلعب الاضطرابات النفسية (Psychological Disorders ) دورا مؤثرا في سلوك الإسراف فالوسواس القهري وردود الأفعال القسرية كاضطرابات نفسية سلوكية تؤدي بالشخص المصاب بها إلى الإسراف في استهلاك الماء كغسل اليدين مرات عدة.
*الخاتمة:
تناولت هذه الصفحات في الجزء الثالث منها قراءات فكرية في: تعريف نوعي الإسراف (المادي والمعنوي)، مع نماذج لنوع الإسراف المادي لدى بعض الأفراد والجماعات، وسنتناول مستقبلا في الجزء الثالث من القسم الثاني النوع الثاني من الإسراف وهو الإسراف المعنوي (غير المادي).
*الهوامش:
1- البهلاني الرواحي، ناصر بن سالم، النشأة المحمدية، ص 10- 11.
2- السالمي، عبد الله بن حميد، جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام، ج 3، ص 449.
3- الريماوي وآخرون، علم النفس العام، ص 648.
4- مجموعة من المؤلفين، المجتمع العربي، ص 143.
5- أنظر: الرابط: www.aldiffa.com /Detail. asp مقال بعنوان: مفهوم الإسراف والتبذير.
6- السالمي، عبد الله بن حميد – جوهر النظام، ص ص 565 – 566.
7- نعمت سبع العيش وآخرون – الثقافة الأسرية – ص 173 – بتصرف.