عبدالله الشعيبي
تابعتُ مادةً حوارية بُثّت على منصة “أوان”، كانت محاورةً بين شاعرين، تحمل في طيّاتها العديد من سياقات الشعر، والكتابة، والتجربة المهنية، سعيًا لفتح نافذة مواربة خلف المسافات الزمنية غير المرئية للمتابعين عبر الزمن.
كان الشاعر والصحفي خميس السلطي أحد طرفي الحوار، بينما كان الطرف الآخر الشاعر علي الراسبي؛ كلاهما يلتقيان في فضاء القصيدة، وكلاهما يدركان خريطتها، ويسلكان مسالكها الجمالية. وعليه، فقد رشحت عن هذه المحاورة رؤى متعددة ومتنوعة، تلامس الجوهر الداخلي لكلٍّ منهما.
اعتمدتُ في البداية على مقاطع منشورة عبر “فيسبوك”، وشعرت أن متابعة ما ورد فيها أمرٌ ضروري، فتواصلت مع الزميل خميس السلطي، طالبًا رابط التسجيل الكامل، ولم يتأخر في تزويدي به مشكورًا.
ومن خلال المتابعة، وجدتُ أن الحوار يلامس تفاصيل عميقة في تجربة خميس، تلك التجربة المرتبطة بعائلة متجذّرة في الشعر، بدءًا من والده، مرورًا بأخيه الأكبر سعيد بن خاطر، وأبناء الأخ، وأبناء العم. إذًا، فالشعر يسري في الجينات العائلية. وعلى الجانب الآخر، فإن خميس لم يكن في كثير من الأحيان صاحب القرار في مسار حياته، فالأقدار لم تمشِ وفق ما أراد، لكنه استثمر الصبر، وراكم التجربة، لينتقل من قريته “حول”، القريبة من “حَلم”، مسقط رأس أجداده، إلى العاصمة مسقط، حيث خاض تجارب متعدّدة، ونشأت علاقة خاصة بينه وبين القصيدة. علاقةٌ نتج عنها ديوان يتيم، فيما ضاع باقي أرشيفه في ظروف مائية غامضة.
سلّط الحوار الضوء على تجربة خميس في تقديم الشعراء العاميين إلى الساحة الشعرية العُمانية، عبر صفحة خاصة في صحيفة “الشبيبة”، قبل أن ينتقل إلى صحيفة “الوطن” في القسم الثقافي. وهي تجربة كان ينبغي أن تحظى بتوثيق ومتابعة أوسع.
وقد صرّح خميس بأن الساحة الشعرية في عمان قد “انتهت”؛ تصريح يحمل نبرة مختلفة، إذ يرى أن التقاليد المرتبطة بالشعر والشعراء قد ماتت، رغم بقاء الأمسيات والكتّاب. فالتقاليد الشخصية، من محبة وتواصل وتفاعل، تلاشت، مما دفع بالشعراء إلى منصات التواصل الاجتماعي بحثًا عن جمهور بديل، جمهور يقرأ الشعر دون أن يشعر بروح الشاعر.
لذلك، بدا خميس وكأنه يريد أن يختطف ما تبقى من العمر، مبتعدًا عن القصيدة، تاركًا إياها كشجرة معلّقة في حنجرة الكلام. ربما لأن النقد لم يعد حاضرًا بشكله الشخصي، وربما لأن المؤسسات الثقافية لم تعتبر الشعر العامي حالة وطنية، رغم حضوره في الغناء العماني لعقود. وربما لأن النقد لم يعد يواكب، أو لأن القصيدة العاميّة ليست ضمن أولويات تلك المؤسسات. كلها فرضيات قد تكون دفعت بالشاعر المستكنّ في خميس إلى الانزواء عن الكتابة، مكتفيًا بشعور القصيدة، لا كتابتها، وبحياةٍ على مقاسه الخاص.
كنتُ قد افترضت أن المحاورة ستتجه إلى استقصاء تحوّلات خميس وتمفصلاته كإنسان وكشاعر وصحفي، لكنها لم تفعل ذلك تمامًا. ومع ذلك، تبقى هذه المحاورة مدخلًا أوليًا يمكن استكماله لاحقًا، لفهم تجربة خميس، وللاقتراب أكثر من تجارب من يشتغلون على القصيدة العاميّة العمانية، بجمالياتها وتمردها وتشابهها واختلافها عن غيرها.
كنتُ سعيدًا بمتابعة المحاورة، وانسابتْ بي بساطتها وإنسانيتها طوال الساعة وما يزيد.