الدكتور سالم بن سعيد الوهيبي
يقول الله تعالى في سورة النمل: **﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾** (النمل: 46).
تأتي هذه الآية في قصة النبي شعيب عليه السلام مع قومه الذين استعجلوا العقوبة بدلًا من أن يتفكروا في نعمة التوبة والهداية.
إنها إشارة عميقة إلى طبيعة الإنسان التي قد تُغرِقُه ردود أفعاله السلبية، فيتقدّم نحو اليأس أو الخطيئة قبل أن يمنح نفسه فرصة لرؤية الخير الكامن.
هذه الآية ليست مجرد موعظة دينية، بل هي مفتاح لفهم فلسفة التفكير الإيجابي التي تجمع بين الروحانية وعلم النفس الحديث، وتُظهر كيف يمكن للإنسان أن يُحوِّل نمط تفكيره ليكون أداة لتحقيق أهدافه، لا عائقًا أمامها.
فالقرآن الكريم لا يخاطب الفرد فحسب، بل يُرسي قواعد مجتمع متماسك يعكس قيمه الروحية في كل جوانبه المادية.
وقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ (آل عمران: 104) يؤكد أن الخيرية ليست فضيلة فردية، بل نظامًا مجتمعيًّا، وعندما نربط هذا بالتفكير الإيجابي، نجد أن تحوُّل الأفراد إلى عقلية “الحسنة” بدل “السيئة” – كما في آية سورة النمل – لا يغير مصيرهم الشخصي فقط، بل يبني مجتمعات قادرة على النمو الاقتصادي والتماسك الاجتماعي.
فكيف تُترجم هذه الروحانية إلى واقع ملموس؟
الإنتاجية والابتكار: من “التوكل” إلى “الأخذ بالأسباب”
الاستعجال بالسيئة قبل الحسنة ليس مجرد خطأ سلوكي، بل هو خلل في الرؤية الذهنية، فالقوم في الآية اختاروا “السيئة” كرد فعل أولي على دعوة النبي شعيب، لأنهم اعتادوا على نمط تفكير قائم على التشاؤم والرفض.
ويصف علم النفس الحديث هذه الحالة بـ”التحيُّز السلبي” (Negative Bias)، حيث يميل العقل البشري إلى التركيز على التهديدات والخسائر أكثر من الفرص والمكاسب، كآلية بقاء تطورية، لكن القرآن يرفض أن يكون هذا التحيُّز مبررًا للاستسلام لليأس، بل يدعو إلى كسر هذه الدورة عبر تغيير البوصلة الذهنية.
والقرآن يجمع بين الثقة بالله والسعي الدنيوي، كما في قصة سيدنا داود عليه السلام: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ (سبأ: 10-11)، وهنا الإيمان بالمعجزة لا يلغي العمل الدؤوب، بل يدفع إليه.
التفاؤل كوقود للإنتاج:
الحسنة هنا ليست مجرد فعل خير، بل هي حالة ذهنية تسبق الفعل، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: 2-3).
والتقوى هنا تعني “الوعي الإيجابي” بوجود حلولٍ غير مرئية، وهو ما يتوافق مع مفهوم “التفاؤل الواقعي” (Realistic Optimism) في علم النفس، حيث يثق الإنسان بقدرته على تجاوز التحديات دون إنكار الواقع. في سورة الانشراح أيضًا: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الانشراح).
تكرار “يُسرًا” يؤكد أن العقل المؤمن مدعوٌّ إلى توقُّع الحل حتى في ذروة الأزمة. العقلية النامية (كارول دويك) تعني الاعتقاد بأن القدرات قابلة للتطوير عبر الجهد، وهذا ما يعززه القرآن في آيات الصبر: **﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ (البقرة: 153). فالصبر ليس انتظارًا سلبيًّا، بل هو استثمار في تطوير الذات.
ولقد أثبتت عدة دراسات أن الموظفين المتفائلين أكثر إبداعًا بنسبة 40% (جامعة هارفارد).
والقرآن يعزز هذا عبر آيات مثل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾، مما يحفز على البحث عن حلول غير تقليدية.
إن الطاقة الذهنية الإيجابية تجذب أحداثًا إيجابية، وهذا يتوافق مع قوله تعالى: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾(آل عمران: 195)، فالعمل هنا يشمل النية والفكر، لأن الله يعلم السرائر، لكن القرآن يضيف بُعدًا أعمق: الجذب ليس سحريًّا، بل هو تفاعل بين جهد الإنسان وتوفيق الله، كما في قصة موسى عليه السلام عندما أمره الله: ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾(الشعراء: 63)، فالعصا وحدها لا تشق البحر، لكنها مع الإيمان تصنع المعجزات.
مجتمع الحسنة… حيث الاقتصاد أخلاقٌ، والتماسك إيمانٌ
الاستعجال بالسيئة – كما ذمَّه القرآن – هو انهزامية تُولد مجتمعاتٍ مُثقلة بالدَّين والفوضى، أما الانتظار الواعي للحسنة – مع الأخذ بالأسباب – فيُنتج أمةً تعلم أن ﴿اللَّهُ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
إن تغيير الأنفس يبدأ بتفكيرٍ إيجابي يُحوِّل التحديات إلى سُلَّمٍ للنهضة، ويجعل من التعاون الاقتصادي والاجتماعي صلاةً جماعيةً ترضي الرب، وتُعمر الأرض.