احمد بن علي الشيزاوي
البيدار… ذاك الذي يُحسن الصلاة فجراً، بينما يغفو غيره على زفرة السهر، ويُقبّل تراب “عابيته” كل صباح كما تُقبّل العذارى مراياهن.
يَصحو لا لأن المنبّه رنّ، بل لأن الديك صاح… وصاح معه ضمير الزمن المكبوت.
ثم يخطو بخطى العارفين نحو عابيته… حيث لا مكان للدعة، فالأرض لا تعرف المزاح، والشمس لا يعنيها الصلعات اللامعة بفعل العرق المبارك.
تراه منهمكًا في نحت يومه من صخور التعب، يسوق المعول كأنه يُقارع القدر، ويرش بذوره لا ليأكل منها، بل ليأكل غيره ويشبع، ويُنهي يومه بمكافآت التصفيق والفتات.
وفي الصباحٍ اللاسعٍ، حين تنام المدينة على وسادة التكييف وتستيقظ على قهوة “الاسبرسو”، يكون البيدار قد سلك دربه المعتاد، والحِمل ينأى به، يرزح تحت كاهله المسفوع بشمس لا ترحم.
ولكن مهلاً، عزيزي القارئ… ما الذي دعانا أصلًا للحديث عن البيادير؟
كتبت لي الأقدار أن أتعيّن في وظيفةٍ تُسهِّل للمواطن حاجته وفي عام ١٩٩٩ تحديدا ، دخل عليّ رجلٌ أشيب، منهك، يحمل من الهمّ أكثر مما يحمل من الشعر، وقال بصوتٍ متهدج: “تجمل في الله يسعدك ويرضى على والديك… أنا أكّد على تاكسي من صغري، درست حُر، لكن السيارة ما كانت ترحم… واليوم محتاج وظيفة، أي شي، المهم أستر عيالي.”
رأيت في نطراته رجاء أفصح من ألف كلمة. فتّشت جهاز الكمبيوتر، فلم أجد له إلا وظيفة واحدة: “بيدار عند أحد الهناقرة.”
سارت به السنون، واقتطع من صحته ووقته ما أهّله لمرتبة الاجادة في العمل، فهو يعمل “بكل جد وكد وتفانٍ وإخلاص”… وحين “زاد الأسى وكثرت العيال وتواترت المطالب والآمال”، لم يشكُ، لم يجزع، بل قال لنفسه: “أُسبب العلاج قبل أن أُعالج الأسباب”،
ذكر لي ذات الرجل قبيل ايام مضت انه التفت إلى الهنقري، ذاك الذي يوزّع السُحّ كأنّه يمنّ على الخلق من جيبٍ خُصَّ له فقط.
فقال له البيدار، بشهامة الجائع المستحيي: “زدنا في حفنة السُحّ التي نتقاضاها نهاية كل شهر حتى نستر حالنا ونحفظ ماء وجهنا أمام أم العيال.”
فرد الهنقري مبتسمًا كالمعتاد: “سوف نزيد… وعد بالتعديل، وزيادة السحّ القليل…” لكن يقال والعهدة على الراوي ان “الزيادة ستكون فردة سح واحدة”.
نعم، لا تُكثر السؤال… فـ”فردة واحدة” كافية لتُدخل الهنقري موسوعة الكرم الرمزي!
إن البيدار يمني النفس “بزيادة حقيقية مما فاض عن حمله البخار”، إذ إن الأسعار حلّقت كأمنية يتيمة في سماء لا غيم فيها، و”ارتفعت أسعار الغلّة ووصلت إلى القمّة”، ولم تكن هكذا يومًا، فكانت من قبل تعاني القلّة. ولكن حين جاء وقت توزيع البركة، سيكون له:
“قفيرٌ في جملة البيادير…”
ولكن… تلك الحروف الثلاثة التي يهدم بها أصحاب الأعمال كل وعودهم، وتحشر بها الآمال في قعر الأدراج، وتعلّق بها الترقية، وتؤجل بها المستحق، وتؤبّد بها الانتظار.
البيادير ليسوا تماثيل طين على أطراف الحقول، بل هم أوتاد الوطن، زرعوا فحصد غيرهم، وتعبوا فضحك غيرهم، وانتظروا… فجاءهم قفيرٌ من الوعود، وربما فردة سح من الجراب.
فيا معشر القائمين على “السُحّ”، تلطفوا بالبيدار…و يامعشر البيادير إن سألتم عن الزيادة… فاسألوا عن ظل الديك في الهجير