يعقوب الخنبشي/ كاتب وأديب
في قلب عمان، حيث تتفيأ الجبال ظلال المجد، وتنسكب الينابيع على صفحات الزمان، تستوي الرستاق لا كمدينة عابرة، بل كـلبنة أولى في بناء المجد العماني، وكـجذرٍ عميق في شجرة السيادة والسياسة والأئمة والسلاطين. هي الرستاق، مرآة الماضي ونواة الحاضر، وقنديل الغد إذا أظلمت الدروب. ليست الرستاق صفحة مطوية في كتب التاريخ وليست عبارة فيه فقط، بل هي عنوانه الأول وسطره الأبقى.
هنا، على أرضها الشامخة، تشكلت الملامح الأولى للدولة العمانية، ومنها خرج الإمام ناصر بن مرشد ليوحِّد الصف ويدفع الغزاة، وفيها تأسست أركان الدولة. ولم تكن الرستاق مجرد مركز للإمامة، بل كانت لبنة الدولة البوسعيدية، ومن ترابها الطاهر خرج السلاطين يمشون على خطى العدل والعلم، ينهلون من حكمة الأجداد ويشيدون مجد الأبناء.
قلاع وحصون الرستاق الشامخة وأفلاجها السرمدية، ومهابتها الحجرية، لم تكن يوماً حصناً فقط، بل كانت كرسيّ الحكم، ومهد الشورى، ومنبر القضاء، وصوت الحكمة العمانية الصافية ورأي أهل الحل والعقد. فيها نطقت الخطب، وتأصل الفكر، وتكوّنت نواة النضج السياسي المبكر. إنها أمُّ المجد، ومرضعة التاريخ، ومهد القادة والفقهاء.
وفي جوانبها الوادعة، وُلدت عقول، وتخرّجت أجيال من فقهاء وفلاسفة وأدباء وشعراء، خاضوا بحور العلم، وأناروا الدروب للناس، حتى غدت الرستاق مدرسة العمانيين الأولى، ومحراب الفكر، ومشعل الطريق.
إن الرستاق، لما لها من عظمة تاريخية وثراء حضاري لا يُجارى، يجب أن تنال حقها الوافر من الاهتمام والإنصاف، لا تكريمًا عاطفيًا، بل وفاءً لما قدّمته من دور جوهري في صناعة الوعي، وتشكيل الهوية العمانية، وتثبيت أركان الدولة. ومن الإنصاف أن نُعلي شأنها في المناهج، ونحتفي بها في الذاكرة الجمعية، ونمنحها من الرعاية ما يليق بمقامها العتيد.
فإذا ما سُئل التاريخ عن موطن الخطوة الأولى، وعن بداية المسير نحو الدولة، أجاب دون تردد: الرستاق، حيث تمازج السيف والقلم، وانبلج الصبح من خاصرة الجبل.
هي ليست مدينة كباقي المدن، بل خارطة وطن في مدينة، وصوت أمة في بقعة من الأرض، ويكفيها فخرًا أن السلاطين مروا من هنا، وأن المساجد خطبت للإمامة، وأن المدارس رسخت معنى التنوير.
ختامًا، أن نضع الرستاق في مقدمة التاريخ العماني وأن نشعلها حاضرا، هو أن نرد لها شيئًا من فضلها، وأن نُقرَّ للعظمة بمكانها، وأن نثبت للأجيال أن من تراب الرستاق، وُلِدت الدولة، ونَشأ السلاطين، وخرج المجد العُماني ليكون شامخا بين الأمم.