يعقوب الخنبشي / كاتب وأديب
ما زالت الثقافة في عالمنا العربي وخاصة في الخمسين سنة الماضية، تُعاني من سَقم الاستحياء، وتقبع بين الجدران كظلٍّ خائف، لا يجرؤ أن يخطو في باحات الشمس، ولا يأنس بحرارة المواجهة مع الواقع والمتغير. وستبقى الثقافة مجرد ظل يتبع الجدران ليست محض تشاؤم بل توصيف حاد لواقع مأزوم، تحوّلت فيه الثقافة من فاعلٍ مبدعٍ إلى كائنٍ طيفيٍّ، يتنقّل في الزوايا المهملة، ويهمس في الهامش بدل أن يتربع في المركز.
الثقافة في جوهرها، ليست تراكم معارف ولا زينة لغوية، بل هي وعيٌ جمعيٌّ يُعيد تشكيل الواقع عبر أدوات النقد والتحليل، وهي جهاز المناعة الحضاري لأي أمة تواجه تيارات التغريب القادم بشراسة بالغة. غير أن هذا المكون في محيطنا العربي، خضع للترويض الطويل، حتى باتت الثقافة أسيرة المؤسسات الرسمية، تتنفس تحت ظل الخطاب السلطوي، وتُنتَج وفق مزاج الرقيب، فتاهت عن دورها التنويري، وانقلبت إلى أداة تجميل للواقع لا أداة تفكيك له.
إن جذور هذا الانكفاء الثقافي لا تنبع فقط من القصور المعرفي أو التدهور التعليمي، بل من بنية سياسية عالية، ترى في الثقافة تهديدًا مستترًا لها.
ففي نظر العقلية الأمنية السياسية العربية؛ الثقافة ليست فضاء للتعدد والتفكير الحر، بل مساحة ملغومة، تنذر بالخروج على النص، وبانهيار السرديات الكبرى التي تصنع الهيبة وتُشرعن السيطرة. ولهذا، وُضِعت الثقافة في موضع الريبة، وأُدرِج المثقف في خانة “الاحتمال الخطير”، بينما جُعلت المؤسسات الثقافية امتدادًا للأمن السياسي، لا حاضنًا للوعي الثقافي.
من هنا نفهم لماذا يُنظر إلى الثقافة – لا سيما حين تتجرّد من الخضوع وتلبس لبوس النقد – على أنها مشروع فوضوي، قد يُحرّض الجماهير على إعادة مساءلة الواقع، أو يُربك الشبكات المنتفعة من الجمود.
فالثقافة الحقيقية تُهدد بنية الاستبداد، لا لأنها ترفع صوتها فقط، بل لأنها تفتح أعين الناس على بدائل ممكنة، على كرامة مغيّبة، وعلى سؤال لم يكن مسموحًا له أن يُطرح.
ولذلك، ووفق منطق السلطة الأمنية، تُعامَل الثقافة كممرٍ غير آمن، يُراد له أن يُضيَّق، وأن يُسيّج بالمنافع، وأن يُملأ بالأصوات المروّضة التي تُعيد ترديد الشعارات بدل ابتكار الرؤى. إنها ثقافة “الترويض” لا “التغيير”، حيث لا يُسمح للفكر أن يعبر الجدار، بل يُطالَب بالبقاء تابعًا للظل، يدور حيث تدور مصالح الأقوياء.
غير أن هذا الظلّ الذي يحتمي بالجدران ليس قدرًا محتومًا. فالشمس لا تُمحق الظلال بل تُعيد تشكيلها.
إن إعادة الاعتبار للثقافة بوصفها فعلًا جماعيًا، مشتبكًا مع قضايا الإنسان العربي، تبدأ من تفكيك علاقة الهيمنة بين المثقف والسلطة، وبين المعرفة والخوف. ويكمن الخلاص في تحويل الثقافة من منظومة خطابة إلى أداة تفكير، ومن رفاهية هامشية إلى ضرورة وجودية.
فحين يُدرك الإنسان العربي أن الثقافة ليست شعارًا مؤتمريًا، ولا معارض ولا كتيّبًا ممولًا، بل مرآة حُرّة يرى فيها ذاته وهمومه وإمكاناته.
آنذاك فقط تُغادر الثقافة الظل، وتشق طريقها نحو الضوء. إنها لا تهدم الدولة، بل تبني الوعي. لا تُحرّض على الفوضى، بل تزرع المعنى. ولئن خشيها المنتفعون، فذلك لأنهم يعلمون أن الوعي، لا السلاح، هو ما يُسقط الفساد.
فهل آن لنا أن نفتح للنور نافذة، أم نبقى نحرس الظلال؟