أحمد بن علي الشيزاوي
في زحمة الرسائل المنبعثة من أروقة وزارة العمل، والتي وردت في الأيام الماضية إلى بعض أصحاب المؤسسات الصغيرة، خرج خطابٌ بتذكير هذه الكيانات الناشئة بتوظيف مواطن عماني بعد مرور عامٍ واحدٍ على ولادتها. وكأنما يُطلب من الغرس الأخضر أن يُثمر قبل أن يتمكن من جذوره، ومن الفجر الوليد أن يسطع شمسًا قبل أن يغادر ظلمة التكوين.
ولم تَمرّ هذه الرسالة على بعض أفراد المجتمع مرور الكرام، بل انغرست في وجدانهم بتأويلٍ حذر: أن هذا الإلزام قد يُفهم – بغير قصد – كإشارة غير مباشرة إلى تعثّر بعض ثمار السياسات والبرامج التي بُنيت عليها فلسفة التعمين لعقود، منذ أن صدح صوت المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – بكلمات العزم في سيح الطيبات بصحم عام 1995، فاتحةً عهدًا من التمكين الوطني بالتعليم والتأهيل، وما أعقبه من نسب التعمين وخطط التشغيل، إلى التعمين القطاعي، وبرامج التدريب المقرونة بالتوظيف، ومسارات الإحلال المدروسة.
فهل من الحصافة – وقد تعاضدت هذه البرامج – أن نُوحي اليوم بأن الحل قد أصبح قسمة غرماء، بعد أن ضاق المسار التنفيذي بما فيه؟ وهل من العدالة أن تُلقى أعباء الاستيعاب على كاهل المؤسسات الصغيرة وحدها، قبل أن تُراجع الجهة المختصة أسس السياسات التي غرستها بالأمس وعلّقت عليها الآمال؟
ليس التوظيف الوطني محلّ إنكار، ولا التعمين غاية موؤودة، بل هو فخرٌ ننشده، ومقصدٌ نبلغه. غير أن البنيان لا يُشاد بالنيّات وحدها، بل يُؤسس على قراءة واعية لتضاريس الواقع وتفاوت طاقاته. فأصحاب المؤسسات الصغيرة، وهم السواد الأعظم من نسيج الاقتصاد الحي، لا يُنكرون واجبهم تجاه الوطن، لكنهم يرفعون صوتهم بحقيقة لا يمكن إنكارها: أن كاهلهم قد انحنى تحت وطأة الالتزامات، وأن مطالب إضافية دون تمييز تُفضي لا إلى نهوض، بل إلى انكسار.
هم لا ينطقون تظلّمًا، بل ينطقون بلسان الاقتصاد نفسه:
إن أُثقلنا الآن بما لا نحتمل، سنكون غدًا أثرًا بعد عين، وتغدو مؤسساتنا التي كانت تدفع الإيجارات، وتسدد الرسوم، وتُنعش الحركة، مجرد ملفات مغلقة على رفوف الذكرى. فخسارة مؤسسة صغيرة ليست فقدان نشاطٍ فقط، بل انقطاعٌ في نبض السوق، وتيبّسٌ في شرايين الحركة الاقتصادية التي تتوزع في القرى والجبال والضواحي، لا في المراكز وحدها.
وما يغيب عن صُنّاع السياسات أحيانًا أن تشغيل مؤسسة صغيرة واحدة لا يعني فقط إبقاء بابٍ مفتوح، بل إطلاق دورة اقتصادية متكاملة: من تنشيط العقار، وتحريك قطاع النقل والخدمات، مرورًا بسلاسل التوريد، وانتهاءً بالضرائب والرسوم التي تُرفد بها الخزينة العامة.
فهي، رغم تواضع حجمها، تمثّل حلقة محورية في منظومة الإمدادات المحلية، وتُسهم في تعزيز قدرة سلطنة عُمان على موازنة سلاسل التوريد العالمية، كما تشكّل ركيزة حيوية في اقتصاد النقل العام – الجوي والبري – أحد أذرع تنويع الدخل الوطني.
ودون انتقاص من أهمية ملف الباحثين عن عمل، ينبغي ألا تُرجَّح كفة تشغيل فردٍ واحد على حساب هذه الدائرة الواسعة التي تنعش أطراف الدولة. فالتشغيل الحقيقي، حين يتم عبر مؤسسة مستقرة، هو فتحٌ لباب رزقٍ كريم، واستثمارٌ في استدامة العيش لا في رقمه فقط.
والمطلوب اليوم موازنةٌ واعية، لا تُغلق فيها المؤسسات لصالح مؤشراتٍ عابرة، ولا يُهمّش فيها المواطن تحت شعار التقشّف.
فالاقتصاد العادل لا يختلّ بجناحٍ دون آخر، بل ينهض بتوازنٍ يحفظ للسماء توازنها وللوطن جناحيه.
وفي هذا السياق، ذهب بعض فقهاء القانون إلى أن مثل هذه التذكيرات الإدارية لا تكتسب صفة الإلزام القانونية إذا خلت من سند تشريعي يؤصّل لها، سواء من خلال قرارات صادرة عن مجلس الوزراء أو ما يكشف عنها من قرارات الجهة الإدارية المختصة، ويؤسّس لبرامج التعمين على قاعدة دستورية وإجرائية سليمة.
كما تقرر فقهيًا أن هذه التوجيهات لا تسري بأثرٍ رجعي قبل تاريخ صدورها، ولا تطال السجلات التي تم تصفيتها أو شطبها، أو تلك التي تفرغ أصحابها عنها وفقًا لما نص عليه قانون الشركات التجارية من وصف قانوني واضح لمفهوم التفرغ.
وفي دولٍ سبقتنا إلى دروب التمكين، أدركوا أن هذه المؤسسات ليست كمالًا في الاقتصاد، بل أصله وروحه، فرفعوا عنها عبء الضرائب، وأخّروا عنها شروط التوطين، حتى اشتد ساعدها، وأزهرت في أوعية الوطن ثمارًا ناضجة.
إن العدالة في التوطين لا تُبنى بالفرض المطلق، بل بميزان الذهب، فتُقارن القدرة بالإمكان، وتُراعى الاستطاعة، ويُقدّر لكل مؤسسة حجمها الفعلي لا عمرها الزمني، فالسنوات لا تروي إن كان الجذر هشًّا أو الأرض قاحلة.
ما نخشاه، أن نقتل الغرس باسم النماء، وأن نخمد النور باسم التوسّع.
وأن نطالب من بالكاد يصمد، بأن يُنقذ غيره من الغرق، وهو نفسه يسبح في تيارات الاقتصاد المتلاطمة.
فرفقًا بالشعلة الصغيرة… فإنها إن أُطفئت، لا تُنير بعدها شمعة.