رأي شؤون عمانية
أن تنجح الدبلوماسية العمانية الهادئة في تحقيق توافق بين كل من الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، للانتقال إلى الجولة الثالثة من المفاوضات غير المباشرة بشأن الملف النووي الإيراني، فإن ذلك يشكل اختراقا في هذا الملف العالمي الحساس، حيث تتعاظم أهمية هذا الاختراق من ناحية الظرف الزمني الذي تحقق فيه، وأيضا ما سيسفر عنه من استقرار دائم بعد نزع فتيل أزمة تهدد السلم والأمن العالمي.
وفي ختام الجولة الثانية من المفاوضات التي تمت بوساطة عمانية واحتضنتها سفارة سلطنة عمان في العاصمة الإيطالية روما، أكّد متحدث باسم وزارة الخارجية العُمانية أن الاجتماعات بين معالي وزير خارجية إيران الدكتور عباس عراقجي، والمبعوث الرئاسي الأميركي ستيف ويتكوف، من خلال معالي وزير الخارجية السّيد بدر بن حمد البوسعيدي، أسفرت عن توافق الأطراف للانتقال إلى المرحلة التالية من المباحثات الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق منصف ودائم وملزم، يضمن خلو إيران بالكامل من الأسلحة النووية ورفع العقوبات بالكامل عنها، مع الحفاظ على حقها في تطوير الطاقة النووية للأغراض السِّلمية.
ووفقا لذلك، ينتظر العالم استمرارية هذا المسار وتحقيق المزيد من الإنجاز في الجولة المقبلة من المباحثات التي سوف تُعقد في مسقط خلال الأيام القليلة القادمة.
ومن ناحية التوقيت والظرف الزمني، فإن نجاح الوساطة العمانية في تحقيق هذا التوافق يعد إنجازا نوعيا لأنه أتى بعد سيل من التهديدات التي صاحبت تولي الرئيس دونالد ترامب سدة الحكم في الولايات المتحدة، وهو معروف بموقفه المتشدد حيال إيران، فمجرد إجراء المفاوضات في هذا التوقيت يعد اختراقا للأزمة التي طالت لسنوات بين الولايات المتحدة وإيران، وألقت بظلالها على الأوضاع في المنطقة، ناهيك عن أن هذه هذه الوساطة التي حققت تقدما بالانتقال لمرحلة تالية جاءت في هذا الوقت البسيط والذي شهد أيضا استئناف ترامب ما يوصف بـ”سياسة الضغوط القصوى” عبر فرض عقوبات على الجمهورية الإسلامية والتي كان قد بدأها منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق السابق خلال فترة رئاسة ترامب السابقة.
ويعد هذا التقدم والمضي قدما في الحل السلمي بمثابة نزع الفتيل عن برميل بارود كان مهددا بالانفجار أكثر من مرة خلال الفترة السابقة، حيث تجلى هذا التهديد في تبادل القصف المباشر بين كل من إيران وإسرائيل بعد العدوان الإسرائيلي الغاشم على الشعب الفلسطيني الذي أعقب السابع من أكتوبر 2023، وما مارسته إسرائيل من عربدة في المنطقة.
ويعتبر توافق الطرفين على أن يكون الاتفاق دائما ومنصفا وملزما هو الأساس الذي يقوم عليه الحل الجذري لهذه الأزمة التي طالت لسنوات، خاصة وأن هذا الاتفاق يضمن خلو إيران من السلاح النووي مع حقها في تطوير التكنولوجيا للأغراض السلمية.
ولا شك أن نجاعة النهج الدبلوماسي العماني الهادئ كان واضحا منذ الجولة الأولى التي عقدت في مسقط الأسبوع الماضي، حيث خرج الجانبان بوصف المحادثات بأنها “إيجابية وبناءة”، كما أن الجولة الأولى شهدت تبادل الرسائل 4 مرات بين الوفدين اللذين كانا في قاعتين منفصلتين، وتناولت الرسائل “مواقف الحكومتين بشأن برنامج إيران النووي السلمي ورفع العقوبات غير القانونية” ليعقب ذلك لقاء مباشر بين وزير الإيراني والمبعوث الأميركي اللذين تحدثا لدقائق بحضور معالي وزير خارجية سلطنة عمان قبل مغادرة مقر المحادثات.
ولعل تأكيد المتحدث باسم الخارجية العمانية أن الحوار والتواصل الواضحين هما السبيل الوحيد لتحقيق تفاهم واتفاق موثوق به يخدم مصلحة جميع الأطراف على الصعيدين الإقليمي والدولي، هو تأكيد على المسار الذي تنتهجه سلطنة عمان منذ سنوات والذي أهلها لتكون واحدة من أبرز الدول التي مارست دور الوسيط المحايد في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في سياقات النزاعات الإقليمية والدولية ما مكنها من فتح قنوات حوار حاسمة بين الطرفين الأميركي والإيراني في مراحل توتر سياسي وأمني حاد، حيث إن سلطنة عمان وسيط موثوق بحكم علاقاتها الجيدة والمتوازنة مع كلا الطرفين الذين ساءت بينهما العلاقات منذ الثورة الإيرانية عام 1979، واستمرار الطرفين على وتيرة من العداء السياسي والاقتصادي، مدفوعة بملفات معقدة مثل البرنامج النووي الإيراني، والعقوبات الأمريكية.
ويدعم الدور العماني في هذه المفاوضات مع عُرفت به سلطنة عمان من سياسة “صفر مشاكل” مع جيرانها والعالم، ما أكسبها ثقة من جميع الأطراف حيث لم تنخرط في تكتلات إقليمية حادة، مما عزز مصداقيتها كوسيط غير منحاز.
كذلك فإن سلطنة عمان وسيط موثوق من الطرفين إذ تمتلك مسقط علاقات سياسية واقتصادية طويلة الأمد مع إيران، وفي الوقت ذاته تحافظ على تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، مما منحها القدرة على التحدث مع الطرفين في آنٍ واحد.
وهناك خبرة طويلة لسلطنة عمان في هذه الوساطة إذ أنه في عام 2012، لعبت سلطنة عمان دورًا محوريًا في استضافة محادثات سرية بين المسؤولين الأميركيين والإيرانيين، كانت تمهيدًا للتوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015 (المعروف باسم الاتفاق النووي الإيراني أو خطة العمل الشاملة المشتركة) حيث سارت سلطنة عمان على نهج هادئ بعيدا عن الصخب الإعلامي، واستضافت اللقاءات الأولى غير الرسمية بين الجانبين بعيدًا عن الإعلام وتم تبادل الرسائل بين قادة البلدين في لحظات تصعيد حرجة، مع التخفيف من حدة التوترات في مراحل الانسداد السياسي أو التصعيد العسكري، وبذلت أيضا محاولات متكررة لإعادة إحياء الاتفاق النووي بعد تولي إدارة بايدن.
إنه من المهم أن تعمل الوساطة العمانية على التوصل إلى اتفاق يراعي ضمان عدم الانقلاب عليه جراء تغير الإدارات الأميركية وتباين مواقفها تجاه إيران، وكذلك أن يتم تحصين الاتفاق والانتباه من أية محاولات لإجهاضه. ومع استمرار التحولات في المنطقة، تبقى سلطنة عمان الصوت الدبلوماسي الهادئ والمهم القادر على فتح قنوات للحوار في عالم يموج بالاستقطاب.