محمد بن علي الوهيبي
حينما تُشرِع الذاكرة نوافذها للحنين، تبدأ حكاية أيامٍ مضت كأسراب طيورٍ مهاجرة، وتدعونا لنستعيد لحظاتٍ عانقت القلب، كأنها تحاول أن تُوقظ فينا ذلك الجمال الذي مرّ بنا ولا يزال نابضًا في أعماقنا.
تظل المهرجانات الطلابية في السبعينات والثمانينات والتسعينات من المشاهد الحية في ذاكرة الزمن، حيث توزعت أماكن إقامتها في مواقع مميزة مثل استاد الشرطة وميدان الفتح في الوطية، اللذين استأثرا بالكثير من العروض والفعاليات التي كانت تلامس شغاف القلوب، كما امتدت تلك الاحتفالات لاحقًا لتشمل بعض المدن والمراكز في مختلف محافظات بلادنا، لتزين السماء العمانية بألوان الفرح والذكريات الجميلة.
كانت تلك المهرجانات أكثر من مجرد مناسبات مدرسية، بل هي لحظات مسكونة ومزينة بالأحلام ، تنبعث منها أصداء فرح لأجيال عاشت حب الحياة بكل تفاصيلها.
عايشتها بكل شغف في صغري، تلميذًا تنبض أحلامه بالأمل في بدايات السبعينات، ثم انتقلت إلى ميدانها معلمًا أزرع بذور العلم في نفوس الأجيال، وبعد ذلك عايشتها في مختلف المسميات التربوية والتعليمية اللاحقة، كانت كل مرحلة بمثابة بوابة تُفضي إلى عالم جديد من التحديات والفرص، تنسج بخيوطها تطور حلم الطفولة حتى يغدو حقيقة نابضة حيث تمازجت فيه الطموحات بألوان الحاضر، وتحوّل كل إنجاز إلى مرآة تعكس الجهد الصادق والمثابرة التي لا تعرف الانطفاء.
وكانت كل لحظة كأنها لوحة فنية تزداد جمالًا مع مرور الأيام تنبض بذكريات لا تنسى طرزت بخيوط من الفرح والأمل، وستبقى جزء من أيام عُمان الخالدة شاهدة على جيل لم يكتفِ بالأحلام، بل طمح إلى آفاقٍ أوسع وأبعد من مجرد الغد.
في قلب الذاكرة العمانية تمتزج الألوان بتفاصيل من الزمن الجميل، تتألق صور الاحتفالات الطلابية لتكون أكثر من مجرد مناسبة سنوية، بل كانت لحظات من الابتهاج كتبت سطورًا من ذكريات لا تزال حية في نفوس الذين عايشوها وكأنها أغنية عذبة تروي قصة جيل بأكمله.
تضم بين طياتها ألوان تتألق بالأبيض والأحمر والأخضر، كانت تلك التظاهرات الطلابية تجمع بين الفرح والتعليم، بين الفن والحياة، وبين الأمل والطموح، كانت منصة حقيقية للإبداع والابتكار عندما يتجمع الطلبة من كل أرجاء السلطنة في أماكن احتفالهم فرحًا وسعادة بالنهضة المتسارعة، ليصنعوا منها ومعها لحظات لا تنسى.
في بدايات السبعينات، كانت عمان تبدأ مسيرتها نحو التقدم، والمهرجانات الطلابية كانت بمثابة الاستراحة والاحتفال والفخر بكل انجاز تم صناعته والضوء الذي ينير الطريق ويمهد للزمن القادم، كانت المدارس تحتفل بتلك المناسبات بحماس شباب لا يعرف الملل، عاش وفهم معنى الوطن، وكان الجميع يساهم في هذه الفعاليات بحب عميق معتزين بما يحققونه من إنجازات في ظل فجر جديد، كان الطلبة يزينون المدارس بالزهور ومجلات الحائط التي تسرد حكايا العلوم والجغرافيا والتاريخ ومنجزات الحاضر، ويشاركون في المسابقات الثقافية والفنية التي تغذي الروح الوطنية والانتماء لوطن عظيم يعود من بعيد.
وكلما اقتربت تلك اللحظات يشعر الجميع أن الوطن لا يحتفل ويفتخر بكيانه وإسمه بل يحتفل بكل واحد منهم وأنه لا يكون ولا يكتمل ولا يزدهر إلا بهم.
ومع مرور الأيام، وتحديدًا مع بدايات الثمانينات، أصبحت المهرجانات الطلابية أكثر تنوعًا وتطورًا، ففي تلك الحقبة بدأت السلطنة تشهد نهوضًا في مختلف المجالات، وأصبح النشاط الطلابي جزءًا أساسيًا من الحياة المدرسية.
بدأ الطلاب يبدعون في العروض المسرحية، والموسيقى وعروض الفلكلور العماني الأصيل، التي كانت تعكس عمق الثقافة العمانية وعراقتها كانت تلك المهرجانات تأخذنا إلى رحلة في أعماق تاريخنا، وكانت كلمات الأهازيج الشعبية وموسيقاها تعبيرًا عن مشاعر متداخلة فيها الكثير من الحنين والابتهاج و الأمل والشغف بالوطن العزيز.
أما في التسعينات، فكانت تلك المهرجانات قد وصلت إلى ذروتها، وكان الطلاب في مختلف المدارس ينتظرون هذه اللحظات التي تجمعهم ليعبروا عن إبداعاتهم وأفكارهم بطلاقة لا مثيل لها.
كانت العروض المسرحية والأعمال التلفزيونية، والفنية، والرياضية، والثقافية تزدهر وتنتشر.
ومع تحسن البنية التحتية وتطوير أساليب التعليم أصبحت المهرجانات الطلابية أكثر تنظيماً وتأثيرًا.
كانت تلك المناسبات الطلابية تعزز روح التعاون والمشاركة، وتغرس أحلام ورؤى الوطن في نفوس أبنائه، تبني مستقبله وتساهم في نهضته، تنسج من الأمل خيوطًا وتضع من الجمال أساسًا لعزته.
ورغم مرور السنوات ستبقى تلك المهرجانات الطلابية ضمن الموروثات الشعبية المنغرسة في جذور الثقافة والهوية، وتجسيدًا للروح الجميلة والأصيلة ولكل ما هو جميل وبسيط في حياة هذا الوطن الذي يلتفت إلى كل ما هو ساحر وبديع ويمنحه المساحة التي تليق به.
ورغم تغير الزمن، وتبدّل الملامح تبقى تلك الفعاليات الطلابية رمزًا خالدًا في الوجدان العُماني، تستحق أن تُبعث من جديد، لا كنسخة مكررة من الماضي، بل بروح جديدة تُجاري الحاضر، وتُلهِم الأجيال القادمة.
ففي زمن التكنولوجيا المتسارعة والاهتمامات المبعثرة، نحتاج إلى مساحات تُعيد للطلبة روح الجماعة، ومتعة الاكتشاف، وعذوبة الإنجاز المشترك.
لا شك أن بلادنا تزهو بشعرائها وكتّابها المعاصرين، وقد آن الأوان أن ننهل من إبداعهم، وأن تتحوّل قصائدهم ونصوصهم الروائية إلى أعمال درامية ومسرحية تلامس الوجدان، وتُعرض في مهرجاناتنا الطلابية، لتغدو الثقافة جسرًا للوعي، ونافذة للفرح تُضيء بها القوة الناعمة ملامح واقعنا وتفتح لنا آفاقًا لفهم أعمق لمعنى الحياة، ومساحة للحلم تمامًا كما كنا نحلم ذات صباح مشمس في السبعينات، نحمل لوحة وعلبة ألوان وقصيدة للوطن.
علينا أن نمد جسورًا بين الأجيال، نُعيد بها صلة الرحم مع الطفولة والأمنيات والمناسبات السعيدة، ونُعلِّم أبناءنا أن الفرح ليس سلعة تُشترى، بل هو نتاج حب الوطن وأبنائه، وثمار عمل مخلص ومتقن، وابتسامة صادقة تخرج من أعماق القلب.
فإن أردنا بناء أجيالٍ تمضي بثقةٍ في دروب الحياة، وتُجيد التمييز بين النور والظلام، فلنمنحهم ذاكرةً تُشبه الحلم …ذاكرة تنسج من الفرح وطنًا صغيرًا في القلب، ومن المحبة جدارًا يصدُّ الغلو ويُهذب الفكر،وتقترب من الحياة بوجهها الأجمل.