أحمد بن علي الشيزاوي
هنا مسقط: حيث تُصاغ الاتفاقات بعيدًا عن الضجيج
في كل مفترق حرج من عام 2012 إلى عام 2025، كانت سلطنة عُمان حاضرة، لا بصخب المتدخلين، بل بهدوء العارفين. لم تكن تبحث عن مجد دبلوماسي عابر، بل عن استقرار إقليمي متماسك لا تهزّه رياح الاصطفاف.
وسُمع صوتها في الصمت، وعُرف موقفها من ثبات حضورها، إذ ظلّت تمثل صوتًا ثالثًا لا يميل حيث تميل الرياح، بل حيث ينجو الجميع من العاصفة.
من مفاوضات مسقط السرّية إلى توقيع اتفاق فيينا النووي عام 2015، ثم العودة مجددًا إلى طاولة الوساطة، ظلّت عمان عاصمة الحكمة في شرقٍ يمور بالاضطرابات.
الدور العماني تاريخيا:
منذ عهد جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، لم تقطع عُمان علاقتها بإيران حتى في أشد اللحظات توترًا، بما في ذلك الثورة الإيرانية عام 1979 والحرب العراقية – الإيرانية، حيث حافظت على علاقات متوازنة مع الطرفين، وأرست بذلك أساسًا لدبلوماسية الصبر والبُعد عن الاصطفاف.
وفي تسعينيات القرن الماضي، عملت السلطنة على توثيق تحالفاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة دون الانخراط في سياسة العقوبات الجماعية ضد إيران، وبدأت تُمارس دورًا صامتًا عبر تبادل رسائل أمنية بين الطرفين، مما مهد لاحقًا لدورها الأعمق. وفي الفترة ما بين عامي 2000 و2013، قاد جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه شخصيًا مبادرة دبلوماسية طويلة النفس، استثمرت فيها عُمان ما تملكه من رصيد الثقة مع الطرفين، حتى نجحت في جمعهما على طاولة التفاهم، بجهود فريق عُماني متكامل من مؤسسات سيادية، كان من أبرز وجوهه الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية آنذاك يوسف بن علوي بن عبدالله.
وقد استضافت مسقط في عامي 2012 و2013 أولى جولات التفاوض السري بين ممثلي إدارة أوباما ووفد إيراني رفيع المستوى، بعيدًا عن عدسات الإعلام وأعين الوسطاء الغربيين، لتُصبح تلك الجولات النواة الحقيقية التي انبثق عنها اتفاق 2015.
وحين انسحبت إدارة ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، لم ترفع عُمان صوتها، بل رفعت قنواتها. امتنعت عن الإدانة العلنية، وركّزت على تهدئة التصعيد وحماية الخطوط الخلفية للحوار.
ومع بداية عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله، استمر النهج ذاته برصانة أكبر، مع خطاب سياسي يعكس لغة عصرية في إدارة التوازنات الإقليمية. إذ توج ذلك في مايو 2023 عندنا قام جلالته بزيارة رسمية إلى طهران، حملت رسائل فعليه عن استمرار الدور العُماني في حفظ مسافة آمنة من جميع الأطراف، بما فيها القضايا النووية والأمنية هذه الزيارة أكدت على تثبيت مكانة عُمان كـ”قناة تواصل لا يمكن تجاوزها”، بحسب توصيفات دبلوماسية غربية.
وفي عام 2025، سيتولّى فريق دبلوماسي يقوده معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي، وزير الخارجية، إدارة الجولة الجديدة من الوساطة بتكليف مباشر كما أكدته تقارير متطابقة من الجزيرة ورويترز.
الولايات المتحدة: من بناء الجسور إلى إعادة التقييم
منذ عام 2012، لعبت الولايات المتحدة دورًا محوريًا في صياغة الحوار مع إيران، حيث أطلقت إدارة باراك أوباما أولى الاتصالات السرية عبر سلطنة عُمان، ممهّدة لاتفاق 2015 وقد وثقت صحيفة Politico ذلك في تقريرها: “How Obama Got to ‘Yes’ on Iran” (8 أكتوبر 2015)
فيما وصفت Wall Street Journal الاتفاق بأنه “اختراق دبلوماسي غير مسبوق” عزّز أدوات التفتيش النووي.
في 2018، ووفق مصادر أمريكية فقد انسحب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق، ساعيًا لاتفاق أشمل يشمل الصواريخ والنفوذ الإقليمي، اذ علّقت WSJ بأن الإدارة “تريد اتفاقًا أطول أمدًا وأكثر استدامة”.
لاحقًا، أكدت إدارة جو بايدن أن “الدبلوماسية ما زالت خيارًا مطروحًا”، مع استمرار جهود التفاوض خلال محادثات فيينا 2021 وفي 2024، أعادت واشنطن فتح الملف وسط ظروف أكثر تعقيدًا، مع بروز دور سلطنة عُمان مجددًا كقناة موثوقة حافظت على ثقة الطرفين، وأبقت الحوار قائمًا بعيدًا عن التصعيد.
طهران: بين ظريف وعراقجي من التوقيع إلى الحساب
في الجانب الإيراني، قاد الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف المسار التفاوضي الذي أفضى إلى توقيع الاتفاق النووي عام 2015، والذي وُصف آنذاك في صحيفة إيران الحكومية بأنه “نقطة تحوّل تاريخية في علاقات إيران الدولية”. غير أن انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق في 2018 شكّل لحظة انعطاف حادة، دفعت طهران إلى تقليص التزاماتها النووية تدريجيًا، في خطوة وصفتها وكالة فارس في مايو 2019 بأنها “رسالة قوية للغرب” وفي المقابل، اعتبرت صحيفة كيهان المحافظة أن الاتفاق منذ البداية كان “خدعة استراتيجية”، وأن انسحاب واشنطن أثبت أن الثقة بالغرب كانت “غلطة العمر”.
ومع فوز جو بايدن في الانتخابات الأمريكية أواخر 2020، عادت نغمة التفاؤل لتطفو على الخطاب الإيراني، حيث كتبت صحيفة آرمان ملي في افتتاحية نُشرت في نوفمبر من ذلك العام أن “فوز بايدن يشكل نافذة جديدة لإحياء روح الاتفاق وتخفيف الحصار الاقتصادي”.
وفي عام 2025، ومع انتخاب مسعود بزشكيان رئيسًا للجمهورية، عاد عباس عراقجي إلى الواجهة وزيرًا للخارجية، ليقود جولة مفاوضات جديدة في مسقط وسط مشهد داخلي متوتر وضغوط متعددة المستويات، حاملاً إرث التفاوض السابق وآمال العودة إلى طاولة تُعيد تشكيل المعادلة النووية من جديد.
محادثات أبريل 2025: دائمًا الحل في مسقط
تُعقد السبت المقبل، 12 أبريل 2025 مفاوضات غير مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران في سلطنة عُمان، حيث تتولى مسقط نقل الرسائل بين الوفدين. يقود الجانب الإيراني وزير الخارجية عباس عراقجي، فيما يترأس الفريق الأمريكي ستيف ويتكوف، المبعوث الرئاسي الخاص، في أول ظهور رسمي له كقائد لوفد التفاوض الأمريكي في هذا الملًف ويُعد اختياره مؤشرًا على توجّه واشنطن إلى إدارة المفاوضات بمنهجية أكثر انضباطًا واحترافية، في ظل غياب روبرت مالي الذي غادر المنصب في 2023
وتتناول المحادثات عدة ملفات رئيسية، من بينها مستويات تخصيب اليورانيوم، آليات التحقق، والضمانات المستقبلية، إلى جانب قضايا إقليمية مرتبطة بالاستقرار العام في المنطقة.
وتأتي هذه الجولة في ظل سعي حثيث لاستعادة بناء الثقة بين الطرفين بعد الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018، وسط ضغوط متباينة، وتوقعات حذرة بإمكانية التوصل إلى تفاهم مرحلي لتُواصل سلطنة عُمان دورها التقليدي في توفير بيئة حوار هادئة، ترتكز على الحياد والموثوقية، بعيدًا عن الاستقطاب الإقليمي أو الخطاب التصعيدي.