فاطمة بنت ناصر
فكرة عيد الأم والاحتفال به فكرة قديمة جداً، فقد تم الاحتفاء بالأمومة في الحضارات الفرعونية والرومانية، غير أن يوم الأم المعروف الآن نشأت فكرته في أمريكا على يد امرأة تدعى (آنا جارفيس Anna Jarvis 1864-1948) وهي ناشطة مجتمعية اشتهرت لكونها صاحبة فكرة يوم الأم.
وفي الحقيقة، إن بداية تشكل الفكرة كانت بسبب والدتها الشغوفة بالعمل المجتمعي خاصة فيما يتعلق بشؤون المرأة، فقد كانت تعقد اجتماعات دورية للأمهات كانت تسميها (نوادي عمل يوم الأمهات)، وكانت تنشر فيها التوعية للأمهات بأهمية اتخاذ بعض التدابير الصحية للوقاية من والأمراض ومواجهة ظاهرة وفيات المواليد والأطفال التي كانت شائعة جدا في منطقتها، بسبب سوء الظروف الصحية المرتبطة بسوء النظافة و قلة عدد الأطباء، وفي عام 1868 دشنت يوم صداقة الأمهات.
لقد كان سبب اهتمام والدة آنا بالمرأة هو ما مرت به من فقدان لأطفالها في سن مبكر، فقد ولدت 13 طفلا ماتوا جميعا في سن مبكرة عدا 4 منهم، ابنتها آنا جارفيس والتي كان ترتيبها 10 من بين 13 من الأخوة والأخوات.
وحين كبرت آنا وأصبح عمرها 12 عاماً سمعت آنا أمها تردد دعاءً عند صلاتها في الكنيسة تقول فيه : “أصلي و أدعوا من الله أن يأتي يوماً ما شخص ويخصص يوماً للأمهات كذكرى تخلد الأم على تضحياتها وما تقدمه من عمل لامثيل لها في كل مجال من مجالات الحياة”، لم تنس آنا ذلك الدعاء، بل أقسمت عند وفاة أمها وقالت : ” سوف أحقق تلك الأمنية لك وسيكون هناك يوماً للأم”.
وعملت آنا ومن يساندها من النساء على نشر هذا السعي بتخصيص يوم بالمرأة، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يحتفلون في 2 من مايو من كل عام بيوم الأم (وهو اليوم الذي توفيت فيه أمها) ، ثم بعد وقت قصير انتشرت هذه العادة في كل أمريكا، الأمر الذي جعل الرئيس الأمريكي ويلسون يصادق في عام 1914 على يوم الأم كيوم وطني.
دعت آنا في آخر حياتها إلى إلغاء هذا اليوم الذي تم استغلاله بشكل تجاري وساهم في تشويه يوم الأم الذي كانت تتمناه والدتها.
يوم الأم من أمريكا إلى مصر
أول من طرح فكرة هذا اليوم كان الكاتب المصري الشهير مصطفى أمين في كتابة (أمريكا الضاحكة) تم نشره عام 1943 الذي يسرد فيه ملامح من الحياة الأمريكية، وقد كتب في فصل الأعياد الأمريكية الآتي:
“ومن الأعياد الجميلة في أمريكا «يوم الأم» و«يوم الأب» وفي هذين اليومين لا تعطل دواوين الحكومة، ولا تقفل المدارس أبوابها، ولا تطلق المدافع، وإنما اختير للأم يوما، يذكرها فيه أبناؤها، فيقدم كل ولد إلى أمه هدية صغيرة مهما كانت تافهة فهي دليل على أنه يحس نحوها بعاطفة الحب والتقدير، فتشعر الأم التي تشقى لأولادها أن لها يوما خالدا في الأيام، ويقيم الأبناء مأدبة لأمهم فتجلس على المائدة وحولها أبناؤها، وللأب يوم آخر مثل يوم الأم”.
وكم تمنى صاحبنا أن تنقل هذه العادة إلى بلادنا، وأن نخصص يوما يحتفل فيه جميع الأبناء والبنات بآبائهم وأمهاتهم، ففي يوم 26 يونيو مثلا من كل عام يحتفل كل فرد في الدولة بأمه ويكفي أن يقدم لها منديلا أو صورة أو أى شيء تافه.. إن هذه الأعياد العاطفية لها أهميتها وقيمتها وأثرها في قلب الأم والأب “
وقد كرر مصطفى أمين وأخوه التوأم علي أمين النداء بتخصيص يوم للأم عبر سلسلة مقالات (فكرة) التي كانت تنشر في صحيفة أخاه علي أمين (أخبار اليوم)، وقد نال هذا المقال استحسانا كبيراً وشهرة بين القراء، وقد اختاروا يوم 21 من مارس لأنه فيه بداية فصل الربيع الذي به دلالات جميلة ففيه يتجلى عطاء الطبيعة وحسنها الفتان،
وهنا نضع المقال بين أيديكم:
عيد الأم
كتبت أدعو لأول مرة للاحتفال بعيد الأم في البلاد العربية في كتابي الأول أمريكا الضاحكة الذي صدر في عام ١٩٤٣ ولكن أحداً لم يلتفت لهذه الدعوة!
وبعد ذلك بأكثر من عشر سنوات جاءت سيدة إلى أخبار اليوم وطلبت مقابلتي وعلي أمين، وشكت لنا أنها كرست كل حياتها لتربية ولدها بعد وفاة زوجها وهي شابة رفضت أن تتزوج . كافحت وجاهدت حتى حصل ولدها على بكالوريوس الطب وأصبح طبيباً ناجحاً، وخطبت له فتاة جميلة ، ودفعت له المهر، وفرشت له شقة، وعندما خرج من بيتها ليسكن مع عروسه الشقة الجديدة لم يقل لها «شكراً» وبعد أن خرجت قلنا أن كل الأبناء ينسون أن يقولوا لأمهاتهم شكراً واتفقنا على الاحتفال بعيد الأم.
وبدأ علي أمين يدعو في «فكرة» للاحتفال بها. وهوجمت الفكرة من الصحف الأخرى. واتهمتنا جريدة الحكومة أننا ندعو للاحتفال بعيد الأم لتنصرف الأذهان عن الغزو التركي لسوريا! وذات صباح اتصل بي الرئيس جمال عبد الناصر تليفونياً وقال لي أنه يرى أن الاحتفال بعيد الأم فكرة سخيفة .. فهو لا يذكر أمه .. وقد ماتت وهو طفل صغير جداً. ولا يعرف كيف يحتفل بها. فهو لا يعرف أين دفنت، ولهذا يحسن العدول عن هذه الفكرة الغريبة !
وأسقط في يدنا، وذهبنا إلى كمال الدين حسين وزير المعارف في تلك الأيام، وكان يعبد أمه وعرضنا عليه فكرة عيد الأم فتحمس لها، وقلنا له أن الرئيس عبد الناصر يرفضها، فأخذني وذهبنا إلى الرئيس عبد الناصر وكانت له دالة عليه، واستطاع أن يقنعه . وعدنا ندعو لفكرة عيد الأم من جديد .
ونجح عيد الأم نجاحاً مذهلاً، وانتقل إلى البلاد العــربيـة، وأصبح عيداً قومياً .
ثم حدث أن سجنت في عام 1965 ونفي علي أمين إلى الخارج .. ومنع ذكر اسمينا وخشيت مراكز القوى أنه إذا احتفلت مصر بعيد الأم في 21 مارس سنة 1966 أن يتذكر الناس اسم علي أمين واسمي!
وصدر قرار جمهوري بتغيير عيد الأم إلى عيد الأسرة، وانهالت الاحتجاجات من الأمهات على الرئيس جمال عبد الناصر، من أمهات السعودية والكويت والعراق وسوريا والسودان واليمن والمغرب والجزائر وتونس وليبيا والخليج، وكل أم في البلاد العربية اعتبرت إلغاء عيد الأم اعتداء على كل أم، ليعود الرئيس عبد الناصر ويصدر أمره بالعودة للاحتفال بعيد الأم.
ومات عيد الأسرة بقرار جمهوري كما ولد بقرار جمهوري!)
رغم موت عيد الأسرة رسمياً بقرار جمهوري في مصر، إلا أنه لم يمت في قلوب الناس، بل حلق من مصر إلى كافة البلدان العربية.
مصطفى أمين وشقيقه علي أمين
الصورة : صورة نادرة نشرت عام 1916 لمؤسسة يوم الأم بالولايات المتحدة آنا جارفيس تتقدم مسيرة في عيد الأم في حشد يتكون من 200 امرأة.