الكاتب: بدر بن سالم العبري *
الغناء والمعازف في العصور القديمة
يصعب بطبيعة الحال توثيق العصور القديمة إلا من خلال ما وصلنا عن طريق النّقوش أو الكتابات الدّينيّة أو بعض الملاحم والكتابات الفلسفيّة، وكلّما تعمّقنا في القدم كلّما كانت المرحلة أصعب في البيان والكشف.
إلا أنّه من المسلّم به أنّ الغناء والمعازف نشأت مع الإنسان وتطورت معه، فهي ليست وليدة الصّدفة، ولكن استطاع الإنسان أن يكتشف نفسه وما في الطّبيعة، ويسقط ذلك في آلات ومقامات تطورت مع تطور الحياة وفلسفتها.
ولمّا أتحدث هنا عن العصور القديمة نقصد بذلك ما بعد اختراع الكتابة، أي قبل أكثر من 5500 عاما، حتى قيام الحضارة العربيّة والإسلاميّة وما بعدها في العصور الوسطى، فهنا ندخل بهذا القيد الحضارة الرّومانيّة في العصور القديمة، وإن كانت بوابة الحضارة العربيّة والإسلاميّة عموما.
واستثنيا ما يسمى بفترة الجاهليّة؛ لأنّ لها مبحثا مستقلا؛ لعلاقة هذه الفترة بالفكر الدّيني الإسلاميّ وإسقاطه على الفنّ تحليلا وتحريما.
إنّ الصّراع الّذي كان بين الإنسان والطّبيعة أدّى إلى محاولة الإنسان أن يسلّي عن نفسه ببعض الملهيات الّتي تعطيه نشاطا في مواصلة حياته من جديد، ولا توجد إشارات يمكن الاطمئنان إليها في بداية استخدام الإنسان للمعازف، إلا أنّه من المؤكد أنّ حنجرته الطّبيعيّة هي آلته الأولى، ثمّ ضربات يديه ووقع أقدامه، حتى تطور الأمر شيئا فشيئا[1].
وبالنّسبة للغناء بدون آله هو الأقدم وجودا، فلا يمكن أن نحدد عهدا معينا يمكن أن يقال إنّ الغناء ظهر فيه، ولكن من الثّابت أنّ العهد الّذي استنبطت فيه الآلات الموسيقيّة كان لاحقا، فهذه اخترعها الإنسان منذ أمد بعيد في القدم، ثمّ توسع في صناعتها، وهذّبها لتكون أطوع في تناول النّغم، وأكثر مطابقة للأصوات الطّبيعيّة في الألحان، فتزيدها بهاء ونقاء وتكسوها زينة[2].
وأشارت التّوراة إلى ظهور آلات الغناء قبل الحضارة المصرية[3] القديمة، حيث ذكر فيها[4] أنّ أول من اتّخذ الغناء والإيقاع على المعازف بنو لامك من نسل قابين، وقيل إنّ يوبال بن لامك هو أول من اخترع العود[5].
وبعضهم أسند أول ظهوره إلى النّبيّ داود – عليه الصّلاة والسّلام – وذلك بعد الطّوفان، حيث هذّب وضرب به، وقالوا إنّ العود الّذي كان يضرب به داود لم يزل ملقى بعد وفاته في البيت المقدس[6] إلى دخول بختنصر[7] وخراب بيت المقدس[8].
وحكى بعضهم إجماع أهل الصّناعة أنّ أول من أحدث العود النّبيّ داود، إلا أنّ الصّفديّ [ت 764هـ] ردّ هذا الإجماع، وبين أنّه لم يثبت[9].
وممن مال إلى هذا الرّأي من المسلمين استأنسوا برواية النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – أنّه قال لأبي موسى الأشعريّ [ت 44هـ]: إنّه أعطي مزمارا من مزامير آل داود[10].
إلا أنّ جمهور علماء المسلمين فسروه بأنّه كناية عن الصّوت الحسن، وقيل لأنّه كان مباحا في شريعتهم، وقيل فيه دلالة الجواز، وهذه الآراء سنناقشها لاحقا.
ويرى فريق آخر أنّ بداية الغناء كان في الحضارة المصريّة[11]، حيث أشارت بعض الأساطير الخرافيّة المصريّة القديمة أن توت رب اليراعة واللّحن[12] والرّقص يبدأ الخلق بالتّصفيق، وبضحكات سبع، يخرج مل كلّ منهما إله، ثمّ يضحك ست مرات، تصدر عن كلّ منهما مخلوقات وظواهر جديدة، وعندما تسمع الأرض الصّيحة تزوم[13] وتهزم، ثمّ تميد فيتفجر منها الماء، وهكذا[14]…
وقد ترك المصريون نقوشا ولوحات يظهر فيها عازفون على مختلف الآلات تدلّ على المكانة الكبيرة للموسيقى عندهم، حيث اتخذوها لأغراضهم الدّينيّة، فأدو بها طقوسهم وصلواتهم، كما كانت الطّبول تصحب المحاربين، وأمّا عامّة النّاس فقد كانت الموسيقى والرقص الشّعبي في أعياهم ومواسمهم، فمن الآلات الّتي اشتهرت عند قدماء المصريين آلة الهارب، وهي الآلة الّتي أصبحت تدعى بالقانون، والهارب المصري يماثله عند اليونان آلة القيثارة[15].
يتبع الجزء الثّاني.
الفهارس:
[1] سليم: عبد السّتار؛ دندنة على سنّ القلم، مقال منشور في مجلّة السّراج العمانيّة، عدد (5)، ذو القعدة 1412هـ/ مايو 1992م، ص 92.
[2] الفارابيّ: أبو نصر محمد بن محمد؛ الموسيقى الكبير، تحقيق غطاس عبد الملك خشبة، ط دار الكتب العربيّ للطّباعة والنّشر، مصر/ القاهرة، [النّص المقتبس في المقال بتصرّف لمحقق الكتاب في المقدّمة] ص 15 – 17.
[3] بعض المعاصرين يميل إلى تسميتها بالحضارة القبطيّة، ويرى تسمية مصر متأخرا عليها؛ بل بعضهم يرى أنّ أول من أطلق مصر عليها المسلمون بعد فتح عمرو بن العاص ت 43هـ، ويرون أنّ مصر المذكورة في القرآن لا علاقة لها بالحضارة المصريّة المعهودة.
[4] نذكر هذه الآراء من باب الخبر التّأريخيّ الّذي في ذاته قابل للصّدق والكذب، إلا أنّ أصل وروده في فترة مبكرة يجعل من الفكرة ذاتها أنّها حاضرة منذ فترة مبكرة في التّأريخ.
[5] مقدّمة الموسيقى الكبير، مصدر سابق، ص 15 – 17.
[6] هذا اعتمادا على التّوراة السّبعينيّة، والّتي كتبت بعد السّبي البابليّ.
[7] ويسمى أيضا: نبوخذنصر أو بخترشاه، أقوى ملك كلدانيّ حكم بابل [605 – 562 ق م].
[8] الصّفديّ: صلاح الدّين؛ رسالة في علم الموسيقى، تحقيق: عبد الملك دياب وغطاس عبد الملك خشبة، ط الهيئة المصريّة للكتاب، الطّبعة الأولى 1411هـ/ 1991م، ص: 15 – 16.
[9] المصدر نفسه، ص: 15 – 16.
[10] أخرجه مسلم بلفظ قريب من طريق أبي عبد الله بن بريدة، والثّاني من طريق أبي موسى الأشعريّ، كتاب الصّلاة، باب استحباب تحسين الصّوت بالقرآن. ينظر مثلا: النّيسابوريّ: أبو الحسين مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم بشرح النّوويّ، ط دار الفكر، بيروت/ لبنان، ط 1401هـ/ 1981م، ج: 5، ص: 80. والحديث صححه العديد من المتقدمين، جاء في سنن ابن ماجه: في الزّوائد: قلتُ أصلّه من الصّحيحين من حديث أبي موسى، وفي مسلم من حديث بريدة، وفي النّسائيّ من حديث عائشة، وإسناد أبي هريرة رجاله ثقات. القزوينيّ: أبو عبد الله محمد؛ سنن ابن ماجه، ط دار إحياء الكتب العربيّة، ج: 1، ص: 426.
[11] الموسيقى الكبير، مصدر سابق، ص: 15 – 16.
[12] وجود تشابه في بعض التّفسيرات الكونيّة بين الأديان دليل على النّقل من جهة، وعلى المصدريّة الواحدة من جهة ثانية، إلا أنّ هذا النّقل يصيبه التّحريف، وهذه المصدريّة تختلط بالوثنيّة والفلسفات الشّعبيّة، ونقلنا لهذا الأثر لا لإثبات مصداقيّة النّص؛ ولكن لبيان محلّ الشّاهد وهو قدم ذكر الغناء والمعازف في التّراث الشّعبيّ المصريّ القديم، والموغل في التّأريخ.
[13] أي تغضب.
[14] فوزي: حسين؛ الموسيقى الأوربيّة من اليونان حتى القرن التّاسع عشر، بحث للمؤلف مطبوع ضمن كتاب محيط الفنون، ط دار المعارف، مصر، ج: 2، ص: 9.
[15] سليم: عبد السّتار، دندنة على سنّ القلم، مقال منشور ضمن مجلّة السّراج العمانيّة، مرجع سابق، ص 92.
- كاتب وباحث إسلامي