الكاتب: محمد رضا اللواتي*
لو قدرت أنامل القضاء الرشيقة لُقيا “أفلاطون” عظيم “أثينا” “بصدر المتألهين” مصمم قواعد “الحكمة المتعالية”، وتتداولا أمر الحركة الجوهرية للعالم، ونظرية الاستذكار، تُرى هل كانا ليخرجان للعالم بحلول دقيقة تتعلق بعلاقة الروح بالبدن؟
ولو رسمت كذلك، تلك الأنامل الدقيقة في عملها، اجتماعا عن غير تخطيط مسبق، بين الرئيس “ابن سينا” وكبير فلاسفة العالم “أرسطاطاليس”، فتداولا شأن “برهان الحركة”، تُرى هل كان بوسع “الرئيس” أن يقنع العملاق “أرسطو” أن طريقته في الوصول إلى “واجب الوجود” طريق العجائز، بخلاف طريقته في تصميم فكرة “الامكان الماهوي”؟
أيضا، لو قدرت الأقلام العالية، مضمارا فلسفيا وقفا فيه كل من الفيلسوف الشهير “برتنارد راسل” و”مرتضى المطهري” وجها لوجه، وتداولا مسألة “المحبة الانسانية”، ذلك العنوان الذي ضم فيه “راسل” بحثا له عن “الأخلاق والفضيلة”، والأساس الذي ينبغي لتلك المبادئ والقيم الاتكاء عليها، تُرى، هل كان “راسل” ليقتنع بوجهات نظر نظيره فيلسوف “الحكمة المتعالية”، بأن فلسفته تلك تخالف شعاره “المحبة الانسانية” جملة وتفصيلا؟
إن الذي يهمنا أكثر من التداولات الفلسفية الثلاثة المشار إليها، حديث “المحبةُ الانسانية”، لأن الزمن الذي نعيشه يحتاج مفكريه أن يعيدوا بحث هذه النقطة بشكل أعمق، وبأدوات لم تكن قد توفرت حينها للفيلسوفان الكبيران.
لقد وقف “راسل” في وجه قرار إلقاء القنبلة الذرية على “ناغازاكي”، إلا أن الموقفان لم يكونا كافيان لدفعه إلى إعادة النظر في مبادئ القيم والأخلاق كما حدد فلسفتها في بحثه بعنوان “المحبةُ الانسانية”.
يرى “راسل” بأن الأساس الذي يمكننا أن نقيم الأخلاق عليه هو ”المنافع الفردية“ فكل واحد منا يسعى أن يحظى بالمنافع التي يريدها، لكنه بغياب العدالة والانصاف والصدق والاحترام، يتواجد الظلم والتعسف والاستيلاء على الحقوق والكذب، وهذا لن يساعد أيا منا على نيل منافعه، فإذن لنطلق على الحق والصدق والاحترام المتبادل ”ما ينبغي“ ولنسميها ”أخلاقا“ ولنعمل للمحافظة عليها حتى ننال منافعنا.
ومعنى هذا أن الرصيد الأعمق الذي يمنح للأخلاق “قيمة” هي “المنافع الفردية”.
فعندما أريد من الناس أن لا يكذبوا في حديثهم معي أقوم بمنح الصدق قيمة وأعدها فضيلة، وعندما أريدهم أن لا يعتدوا على ممتلكاتي أعد الظلم قبيح والعدل حسن. هذه القيم والفضائل والأخلاق ليست إلا رغباتي التي من الممكن أن تتغير وتتبدل بحسب احتياجاتي، عندها قد أمنح للسيطرة على العالم وقمع المعارضين وسلب مقدرات الآخرين لأجل منافعي وبقائي قويا قيمة وأعتبرها حسنة، وأعد وأعتبر غير ذلك قبيح، فالأخلاق والفضائل أمور “نسبية الاتصاف بالقيم” فالخلق الحسن اليوم من الممكن أن يكون خلقا سيئا غدا. فإذن علاقة أحاسيسي بمنافعي تؤسس ”ينبغي“ أو ”لا ينبغي“.
“مطهري” علق على أطروحة “راسل” يقول بأن: ”فلسفته تخالف شعاره الذي هو المحبة الانسانية لأنه أقامها على المنافع“.
يريد “مطهري” بذلك أن يقول بأن المحبة الانسانية ليس بالامكان إقامتها على “المنفعة الشخصية”، ذلك أن المحبة الحقيقية في منطق “المنفعة الشخصية” هي للذات المنتفعة فحسب، ومن المحال أن تتعلق بإنسان آخر، إلا لأجل ما يعود من ذلك الحب إلى الذات المنتفعة بمصلحة ما. ومعنى هذا أن الأنا الأعلى هي المنظور إليها بالأساس، وكل علاقة، بما فيها علاقة المحبة مع الآخر، فهي لأجل ما تدر هذه العلاقة بالمنفعة واللذة والراحة للذات المنتفعة أو الأنا الأعلى.
في منظور “مطهري” أن هذه النظرية تدمر الأخلاق وتقضي على الفضيلة تماما، ولا اجتماع للمحبة الانسانية بالمنفعة الذاتية إطلاقا.
ويطرح “مطهري” سؤالا حاصله : “عندما يكون أحدنا يمتلك ترسانة من الأسلحة التي لا يمتلك غيره نظيرا لها، تُرى ما الذي يدفعه حينها أن يراعي الآخر فلا يظلم ولا يفسد حتى لا يقوم الطرف الآخر بظلمه وردعه لعجزه عن ذلك؟” يرى “مطهري” أن انتقاد “راسل” لقرار حرب الولايات المتحدة على “فيتنام” لا معنى له بالمرة وفق فلسفته.
يرد “راسل” على هذه النقطة بقوله أنه ينبغي أساسا أن تعمل البشرية على منع تواجد القوة المطلقة لدى جهة ما، باجتثاث أسباب ذلك، وعندما لا يكون ممكنا تواجد الأقوى والأشرس، فلن تقع الحروب لأجل الاستحواذ على مصالح الغير عنوة، حتى لا يتم معاملة المعتدي بنفس الأسلوب.
غير أن جماعة من المحققين يعتبرون أن هذه الدعوة لا تمت إلى الواقع بصلة، فضلا عن كونها لا تعالج جذر المأزق، المتمثل في منح الأخلاق صفة المنفعة الشخصية.
يستمر “مطهري” في تقويم الاعوجاج في تصور “راسل” لمبادئ الأخلاق الانسانية، فيتساءل:
“ما تفسير تضحية الانسان بذاته أو ماله أو مصالحه لأجل غيره؟
كثيرا ما يتنازل الواحد منا لأجل أن ينتفع شخص آخر على حسابه، فما مبرر ذلك؟ وما مبرر التضحية بالذات لأجل الآخرين؟ لماذا يذهب الجندي إلى ساحة الجهاد لأجل أن يبقى غيره ينتفع من تضحيته وإفنائه لذاته؟ يبدو، أن بحث “راسل” لا يحمل إجابة دقيقة عن هذا التساؤل.
ويخلص “مطهري” من ذلك بأنه لا بد من القول بوجود “مبدأ معنوي” لا علاقة له بالمصالح الشخصية، هو المحرك للأخلاق، وإلا فلا أخلاق قابلة للتصور أو فضيلة تستمدان رصيدهما من “حب الأنا” والعمل لأجل منغعتها فحسب.
يعتقد البعض أن نقود “مطهري” على فلسفة “راسل” حول مبادئ الأخلاق المودعة في بحثه حول “المحبةُ الانسانية” ما كانت لتُقنع “راسل” بالتخلي عنها، وهو الذي شهد مآسي الحروب وفظائعها، وبحسب هؤلاء، فإن “راسل” كان قد شهد قوة عظمى في مواجهة قوى أضعف، ولكن هل يا تُرى لو عاين قوة ضارية تنهش في جسد شعب أعزل لتدمر المنازل والمستشفيات والمدارس على رؤوس من فيها كبارا وصغارا على حد سواء، كما يجري اليوم في “اليمن”، هل كان يظل محافظا على هدوءه، ومعتقدا بصحة فلسفته، وأنها تمنح “للمحبة الانسانية” معنى؟.
*كاتب وباحث عماني متخصص في الفلسفة الإسلامية