بقلم: منى بنت سالم المعولية
(١)
حين فارقت أروقة مدرسة الامل الثانوية ببركاء لاخر مرة في عام ٩٩ و أنا أحمل نسبة مئوية لم تتعدى السبعينات لم أكن أتخيل مطلقاً أنني لن أعود اليها مرة آخرى، ولم يتبادر الى ذهني أن الحياة ستبحر بي بأشرعة مع التيار لحظة وعكسه في لحظات،كنت أتفقد خيبة وجه أبي فتلك النسبة في ذلك الوقت كان مشروعها الاكبر هو المنزل،لم تكن حتى الظروف المادية لعائلتي تسمح بابتعاثي على نفقتهم الخاصة كما فعلت كثيرا من العوائل يومها وعادت بعدها الكثير من صديقاتي و زميلاتي من الدول المجاورة بالشهادات و من ثم الالتحاق بالسلك المهني، أما أنا فوقفت حيث كنت و لم تعصف بي رياح التغيير، كنت كلما حاولت الانتصاب وتقويم الحال اعوجت الظروف وعاندتني المعطيات فأعود لادراجي يائسة حتى بلغت الخامسة والثلاثين من العمر ….
(٢)
كنت أقف كثيرا عندما تقدم لي استمارات استبيان عند خانة مستوى التعليم فأحدق في المربعات التي تتقدمها
#يقرأ ويكتب،#جامعي،#ثانوية عامة.
كثيرا ما يخونني القلم وتخذلني الاختيارات ويذكرني الواقع بالواقع و أضع العلامة حيث شاءت لي قدراتي أن أبقى.
(طالبة ثانوية)
كلما سألني احدهم ذات دهشة من سرد او حوار معي ما هو تخصصك يا منى؟! كنت أتلعثم و أتردد و أشعر بخجل يغلفه الالم،إن كان يقال لا تسأل المرأة عن عمرها و وزنها فأنا أقول اسأل ما شئت عدا سؤالي عن أي الدرجات العلمية أحمل،و لا أي المناصب تشغلين،بقيّ ذاك الهاجس الجبان يؤرقني،شعور بالنقص اللامبرر و خليط من مشاعر اخرى أعرف مبررها وحدي.
(٣)
قرعت ابواب الوظائف،كل الوظائف وكما هو حلم اي شاب وشابة سعيت الى أن أتوظف في القطاع العام،دخلت اختبارات عدة،المطلوب فيها واحد والمتنافسون عليها الف.
قزم امام مارد،كيف لابرة أن تلمع بين كومات القش!!
التضميد،السجلات،السكرتارية،و كل ما يمكن لامكانياتي المتواضعة أن تلتحق به و مع ذلك أخفقت!
لوحت لي الشركات بيديها و فتحت ذراعي وعانقت الشركات.
ككل المحظوظين من ابناء حظي كنت أتقاظى ١٥٠ ريالا في بدايتي، لكني كنت أراها في ذاتي تساوي الكثير،تستفز فرحي تلك الرسالة النصية التي يلمع بها هاتفي في نهاية كل شهر تجعلني أنسى كل العناء،حقيقة لا أعلم إن كان ذاك المبلغ الزهيد ايامها يغطي حقاً كل أحلامي! أم أن أحلامي نفسها كانت(صغار).
و من شركة الى اخرى و حلم الدراسة الجامعية يتقاذفني بين مد الرغبة وجزر الحاجة والانكسار..
(٤)
بين الشركات السياحية و شركات الاستشارات الهندسية وثم شركات التأمين وأخرى حاولت أن أجد نفسي، عرفت اصناف البشر وعرفت فيهم الانسان واستطعت أن أميز بينهم من كان هيئته أشبه فقط بالانسانية، علمت ماذا يعني أن تكون رهين أمزجة المسؤلين وماذا يعني ان يكون عداد الوقت مسلط على حضورك،علمت كيف ينسف أولئك كل جهدك بكلمة وكيف يكون مصير راتبك قيد توقيع رضا، و كيف يهدم قصر رمل أحلامك اتهام باطل بتقصير مفترى،تعلمت مع ذاك الصنف من البشر كيف أتحسس خطواتي و أقوم قلمي ويستقيم القلم على خط المسطرة، كيف تكون الزلة والخطأ مضاعفة والجهد والاحسان مخفف و إن كان الامر لا يخلوا من ثناء شكر امامك ونقد وانتقاد حينما توليهم القدّ منك.
عرفت كيف هو شعور أن ترفع رسالة وتحبس أنفاسك بانتظار الموافقة وتشرح ظروفك وتعتصر ألامك وتسكب فيها ماء وجهك،لا يهم أهو تظلم أم تألم أم هو حق مشروع أو حلم مستباح أو هو صدقة مرتجاة.
لكن بعد كل رد بالرفض يأتي كنت أتيقن تماماً أن بعض البشر لا يرحم.
عرفت شعور كيف تقزمك ظروفك و كيف تقلصك عوزتك و كيف تحجمك درجاتك.
عرفت ما معنى أن تنهش سلفيات البنك ربع راتبك، وتشرب سيارتك بنزين جهدك وعرفت معنى أن تعيد من على طاولات المحاسبين في المولات بعض مشترياتك وتكتفي بالبعض مراعاة لكرامة نقود محفظتك..