الكاتب : خالد محمد عبده
ميزة الغياب والسُّكر عن عالم الصور.. الخلوة بالنفس والتعرّف عليها عن قرب .. سندرك بالغياب عن الصور الزائفة ما قرّ في ضميرنا وقلوبنا . . من فرح أو حزن .. من إيمان أو كفر .. أنت وحدك أمام نفسك ترى نفسك دون أن تنخدع أو تُخدع.. ما قاله البسطامي عن عبور بحرٍ وقف غيره بساحله .. أو قاله الأنصاري أو الخرقاني من كون الصوفي غير مخلوق .. أو قاله الحلاج من .. خلصوني .. واقتلوني .. لا يمكن فهمه على الحقيقة ولا إدراك معناه إلا بعد الغياب عن مقاييس لابسي العدسات، المبصرين بوسائل كثيفة لا يدركون كثافة حجبها لمقاربة الحقيقة! في كل سُكرٍ وغياب رحمة كالغيث النازل من السماء يحتاج لمحب للحياة أن يبسط ذراعيه ليتلقى وينفض غبار الراكد من شبه الحياة.
إن أي طريق من طُرق الروحانية ليست ملكًا لأحد، فكما يُقال: (المحكمة ليست ملكًا للقاضي). لكن يحلو لبعض المتحديثن باسم التصوف اليوم أن يجعلوا من أنفسهم كبارًا ويضيقوا على خلق الله من خلال ممارسة سلطتهم على بعض الصغار، فالمتحدث قطبٌ من الأقطاب وكبيرٌ من الكبار يؤتى الحكمة وفصل الخطاب، لا معقّب لحكمه ولا رأي صواب غير رأيه .. لا يفرّق بين (أنا) إبليس و(أنا) الحلاج ويلوّث طريق الصوفية الذي يُفترض أن أوله معالجة عيوب النفس، وليس إثبات أوهام النفوس.
كنتُ كتبتُ قبل فترة: لولا (المرحوم ماسنيون) ما عرفنا الحلاّج، وما عرف العالم كلّه الحلّاج في عصرنا الحالي، نذر ماسنيون حياته للحلاّج، تمثّل بالحلاّج في طقوسه وعباداته وحياته -كما روى عبد الرحمن بدوي- وحده ماسنيون من (أحيا) الحلاّج بعد موته، طاف شرقًا وغربًا من أجله ، تعلّم اللسان الفارسيّ والتركيّ والعربيّ والأرديّ من أجل (درس الحلاج والتّعرّف على عالمه) كَاتَبَ العلماءَ في بقاع الأرض من أجله، ارتدى الزيّ الأزهر وتعلّم في الأزهر من أجله، قرأ القرآن وتلقى على المشايخ وأنشد الأشعار من أجله، فلولا الناطقُ بالأعجمية (ماسنيون) لما عرفنا الناطق بالضَادِ (الحلاج) اليوم ولا قرأنا شيئًا من آثاره.. علّمنا الله وفهّمنا وجعلنا عند أمره ونهيه. فسألني أحد الصوفية الطُرقيين! سؤالاً –معقّبًا على قولي- جاء على هذه الصورة:
(لكن هل أسلم الماسينيون أم هو في الأصل عميل ؟ هل يجوز أن نقول: ماسينيون رحمه الله )؟ فأجبته: نعم .. بالنسبة لي أقول: رحمه الله وعلّمنا ونوّر لنا حتى نعي قوله سبحانه: “ورحمتي وسعت كلّ شيء” فاللهم ارحم العالمين، فقد أخبرتنا أنك بعثت لنا رسولاً “رحمة للعالمين”.
أمّا حديثُ (العمالة) فهذا حديث ننأى به عن مريدي التنوّر، فالمُطّلع سبحانه واحدٌ، لا يُشاركه في علم الغيبِ والنيّات وما استقرّ عليه القلب أحدٌ .. شُغلُ المتنوّر بذاته أولى، وهذا كافر هالك وهذا ناجٍ له وحده، واذكر في الكتاب الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، منهم المسلمون ومنهم النصارى ومنهم الصابئون.. والرحمة بساطٌ يسع العصاة فما بالك بالطائعين ورهبان العلم .
وفيما أنا أفكّر في هذه الحادثة .. تذكّرتُ قول أحدهم كان حاضرًا في (روما) في إحدى المؤتمرات التي تنعقد هناك، فجرى ذِكرُ الأب (جورج شحاته قنواتي) فما كان منه حين سُئل لماذا لا تقول رحمه الله؟ إلا أن قال: (رحمه الله برحمة أهل ملّته) وأخبرني بهذه الجملة وكأنها اختراعٌ من سيادته، فتذكرتُ قول الله في القرآن:(أهم يقسمون رحمت ربك) فرحمة للمسلمين خاصة ولا رحمة لغيرهم.. إذا كانت الرحمةُ من عند البشر فالانتظار مخيّب لآمال الجميع، لأنها نفدت من عندهم بمجرد (الاختلاف)، رغم أن رسالة الأنبياء جميعًا تُبلّغ أتباعها أن ( الاختلاف رحمة) نحن في حاجة إلى إعادة تخليق وتركيب من جديد، فالبناء مُتهدّم بما فيه.
إن من أجمل العناوين التي اختارها ماسنيون للتعبير عن حضور الحلاج في العالم الإسلامي منذ لحظة سجنه وصلبه بعد حياة ملآى بالآلام كان عنوان بحثه: حياة الحلاج بعد وفاته! فهم ماسنيون حياة الحلاج وتعاليمه، وصحّح لمحمد إقبال كثيرا من أفكاره حول الحلاج والتصوف الإسلامي، وكذلك فعل مع كثيرين شرقا وغربا، لذلك يتعجّب المرء من تطاول بعضنا على رجل مثله ونحن لم نحسن القراءة بعد فضلا عن أننا لم نخلص لشيء ولم ننتج شيئا بعد!
كتب إقبال يقول بعد مراسلاته مع ماسنيون: إن مجموعة نصوص الحلاج التي جمعها ونشرها ماسينيون لا تدع مجالا للشك في أن الولي الشهيد لم يكن يقصد من عبارته (أنا الحق) أن ينكر على الله صفة التنزيه. والتفسير الصحيح لتجربته إذن ليس هو أن القطرة تنزلق في البحر، ولكنه إدراكٌ لحقيقة النفس الإنسانية وتأكيدٌ جريءٌ لدوامها في شخصيةٍ أعمق، بعبارة قوية باقية على الدهر. إن (أنا الحق) طاقة هائلة نابعة من تجربة ملآى بالمعرفة جعلها الحلاج بداية بستان المعرفة.
فمن عَالمَ أدبني ربّي وليس من عالم علّمني أبي وأورثني معارفه، رأى إقبال الذي رفض وحدة الوجود كمذهب يدين به الهنود في وقته أن (أنا الحق) كلمةُ حقٍّ قالها الحلاّج وابتغى بها الحق، وأن من أنكر عليه لم يكن على اطلاع كافٍ ووفهم ووعي بما قال الحلاج، لذلك شاركوا في إدانته وقتله. ومن باب مصارحة النفس رأى إقبال نفسه مخطئ ومتسرعًا حين أنكر على الحلاج أقواله، فقال: إنني كنت صاحب معرفة منقوصة في هذا الشأن. وكان أن أهداه نيكلسون المستشرق الإنجليزي كتابه الذي ألّفه عن التصوف الإسلامي، وشرح له موقف الحلاج ورؤيته الصوفية. وكذلك فعل ماسنيون، بأن وفّر له كتابه الذي ألفه في عشرينيات القرن المنصرم عن الحلاج، واجتهد اقبال في الاقتراب من عالم مولانا جلال الدين الرومي ، الذي أوقفه على معاني كلمات الحلاج، ولعل بستان الرومي كان السبب في تفتّح البرعم الذي أثمر تلك المعرفة عند إقبال.
إن عبارة قالها ماسنيون لإيفا دوفيتري ميروفيتش تجعلنا ندرك إلى أي مدى أثّر التصوف في شخصيته وأعاد تكوينه: إذا كان هذا مذهبك فأنا أحتضنك بملءِ يدي . قال هذه العبارة ماسنيون للسيدة إيفا ميروفيتش حينما اكتشفت الإسلام واختارته دينًا وغاصت في بحار التّصوف الإسلامي عابرة بشراع سفينة إقبال حتى تصل إلى الرّومي الذي تلاشت في بحاره في حياتها وجاورت في انتقالها إلى الرفيق الأعلى مرقده الشريف .