أحمد الجلنداني
muznsamail@gmail.com
ووطأت قدماي أخيرا أرض بغداد ! بلد حكايات ألف ليلة وليلة الساحرة ، حاضرة الدنيا ، ومتغنى الشعراء والأدباء على مر العصور . مدينة النجوم كما رآها البياتي . أنشودة الحب والجمال وأيقونته التي تغنت بها كوكب الشرق وفيروز ذات يوم . وعنها كتب نزار رائعته بغداد وفيها تغزل الشاعر الراحل كريم العراقي بقصيدته كثر الحديث عن التي أهواها، روح دجلة كما وصفها المتنبي منذ عصور خلت ، وعنها قال الإمام الشافعي ” ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا ، إلا بغداد ؛ فإني حين دخلتها عددتها وطنا ” ، وقال أيضا لأحد تلاميذه عندما سأله هل زرت بغداد وأجابه بالنفي ” ما رأيت الدنيا ، ولا رأيت الناس ” . أما أبو حيان التوحيدي وكان من عشاقها وملازميها فقال عنها ” إذا ذكرت بغداد نفسي تقطعت من الوجد ، أو كادت تذوب بها وجدا ! “.
هكذا عرف الأدباء والشعراء بغداد ونهرها دجلة منذ ما قبل عدي التميمي والعباس بن الأحنف والبحتري والمتنبي الذي قال مخاطبا بغداد:
يا روح دجلة للأرواح مالكة تبكي عليك عيون قلما تنم
واصفا بغداد بأنها “شفاء العين من رمد” ، و” وانبراء الروح من سقم” ، و “دواء القلب من عجز” ، و”هلال الأشهر الحرم” . وبعده تلميذه النجيب المعري حين قال:
وردنا ماء دجلة خير ماء وزرنا أشرف الشجر النخيلا
أما غيرهم من الشعراء عبر العصور والشعراء المحدثين من العراق وباقي الشعراء فكثيرون ؛ فإلى جانب شوقي والسياب والبياتي ونازك وبلند والرصافي والفراتي والزهاوي وشوقي والنواب ومصطفى جمال الدين والجارم والشاعر حميد سعيد هادي في معلقته البغدادية ؛ يتصدر المشهد الجواهري بقصائده الخالدة عن بغداد التي كانت حاضرة في وعيه الطفولي والشباب وسنوات المنافي التي كان يخاطبها فيها بالقصيدة تلو الأخرى يبثها حنينه الجارف إلى العراق عامة وبغداد خاصة وهو الشاعر النجفي الأصل وعلى رأس قصائده تأتي رائعته الشهيرة يا دجلة الخير ومطلعها
حييت سفحك من بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين
وقصيدته التي يقول فيها
خذي نفسي الصبا بغداد إني بعثت لك الهوى عرضا وطولا
وقال اخر
على بغداد معدن كل طيب ومغنى نزهة المتنزهينا
سلام كلها جرحت بلحظ عيون المشتهين المشتهينا
وبينما بكاها المصري أحمد رامي في قصيدة له منها
ايه بغداد والليالي وكتاب ضم أفراحنا وضم المآسي
؛ قال الشاعر الشبيبي
وفي الأرض بغداد هواء هو المنى وعيش هو السلوى وماء هو الخمر
وفيها قال الشيخ أحمد الوائلي:
بغداد يا زهو الربيع على الربى بالعطر تعبق والسنا تتلفع
يا ألف ليلة ما تزال طيوفها سمرا على شطآن دجلة يمتع
بغداد يومك لا يزال كأمسه صور على طرفي نقيض تجمع
وتغنت بها الشاعرة الراحلة لميعة عباس بقصائد فائقة العذوبة كأنت بغداد ، وأغني لبغداد التي كانت فيها بغداد رمزا للعراق بأكمله .
ولها كتب الشاعر السوري قصيدته على هامش رسالة من بغداد ، وقصيدته الأخرى بغداد تمزق القيد ويقول في مطلعها:
شدي علي قبل العناق شدي فلن يروى اشتياقي
ظمئي كغلتك الرهيبة واحتراقك كاحتراقي
شدي على شفتي يا بغداد ، زلزلني التلاقي
إنها بغداد ! العصية على الإمحاء والتلاشي مذ عرفها كتاب التاريخ ، زهو المدائن ودار السلام رغم أنف الغزاة الذين وإن عبروا ساحتها زمنا ؛ لا يلبث الحال طويلا لتعبرهم هي نهاية المطاف فيتلاشون هم وتبقى هي شامخة الرأس تغسل بماء دجلة ما لحقها من أدران الطامعين لتنهض من جديد بوجهها الطفولي النضر الذي لا يغضنه مر السنين والأعوام ولا انكسارات الحياة !
حاضرة في الوجدان العربي من المحيط الى الخليج تلهب مشاعرهم لماسيهآ فينبري شعراؤهم وكتابهم للكتابة عنها بوجع وألم وحسرة كمثل قصيدة أبغداد أم الحسين للشاعر المغربي محمد المرجاني ، وقصيدة بغداد معذرة للشاعر الجزائري الثائر محمد الأخضر السائحي في الغزو الأمريكي للعراق التي تفيض وجدانا وتقطر ألما وحسرة يؤكد فيها
هو العراق شموخ ليس يستلب لولا العراق لضاع الفن والادب
هو العراق له التاريخ مركبة يحفها المجد اسفارا بها العجب
هو العراق مدى الازمان منتصر صحائف المجد مستور ومنتصب
هو العراق شموخ ثابت عجب له السماء حمى .. والارض مكتسب
وقبلهما قال الشاعر اليمني المقالح في أحد مقاطع قصيدة له فيها:
” إيه بغداد
يا نخلة سكنت كل قلب ،
ويا شمسنا العربية
تلك التي عبرت كل أفق،
لأن الاسى يكتب اسمك بالدم ،
يصنع مجدك باللهب العبقري ..
ستبقين شامخة ببنيك الأشاوس
بالأوفياء،
ولن أتردد أن ارفع اسمك
عاصمة للعروبة ،
كل العروبة
في زهوها بصمودك
في زهوها بشوائك للمعتدين
الغزاة “
جئتها وأنا أترنم ببيت نزار حين قال
بغداد جئتك كالسفينة متعبا اخفي جراحاتي وراء ثيابي
تعب الحياة وأثقالها وحيرة الروح وشوق عقد من السنين دون هذا اللقاء الذي تأخر أخير كثيرا لكن الأجمل أنه تحقق وها أنذا في بغداد روحا وجسدا محاولا أن اكتب عنها ومن ذا الذي يمكنه الكتابة عن بغداد دون أن تكون كتابته ناقصة مقصرة عنها فالكتابة عنها لا يكفيها ألف كتاب كما اختصر نزار بوصفه الأمر على الآخرين تماما!
أخذتنا السيارة تمرق بنا الشوارع والجسور لنعبر الكرخ الى الرصافة عبر جسر يعتلي نهر دجلة الذي تراه عيناي للمرة الأولى رأي العين التي لطالما حلمت بمنظر هذا النهر الخالد في ذاكرة الجمع العربي كمثيلاته من الأنهر في الوطن العربي كالفرات والنيل وأبي رقراق وبردى والعاصي التي فتنت الناس قبل الشعراء والادباء الذين تغنوا لها وبها منذ القديم وحتى الآن ويحق لهم التغني كونها ليست شرايين حياة فقط بل وجدان أرواح هامت أرواحهم بعشقها مذ عرفتها وإلى أن فارقت الحياة ليتبقى أرثها من قصائد وأغان ولوحات تتناقلها الأجيال بذات الألق والتوهج .
فاتن هذا النهر ليله ونهاره حد الدوار يغزو تلابيب الروح ونياط القلب ، يستفزها بجماله الأخاذ فضلا عن نسماته الحانية التي تسترخي الأعصاب لبرودتها في مساءات بغداد الحارقة صيفا الحالمة به دوما وبأهلها المغموسين كباقي سكان العراق في دماثة الخلق ولطف الكلام والكرم تماما كما وصفهم أبو سعيد النيرماني من قصيدة امتدح فيها بغداد وأهلها
فقد طفت في شرق البلا وغربها وطوفت رحلي بينها وركابيا
فلم ار فيها مثل بغداد منزلا ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلا وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا
ويقول الشاعر الزهاوي في قصيدة له بعنوان بين دجلة والفرات
ما رأينا كمثل دجلة سطرا لو قرأنا صحائف الكائنات
لا ولا كالفرات في الأرض نهرا منعشا للحيوان والنبات
وقال الراحل الدكتور مهدي البصير:
سلام على دجلة في البكور وإن طاب لي كل أوقاتيه
وقال الشاعر عبد المحسن الكاظمي من قصيدة
ويحسبني بماء النيل أروى وبي ظما لدجلة والفرات
وعن نهريها دجلة والفرات كتب سعدي مجموعته الشعرية السونيت التي تضم سونيت دجلة وسونيت الفرات ، أما بهاء الدين الكركوكي فتغنى بالنهر في قصيدة نهر دجلة إذ قال فيها مترجما عن الأصل التركماني:
أيها البحر ذو الأمواج الهادئة
أيها النهر العظيم ملؤه السعادة
أما يكفي هذا الحزن
وهذا الجور والجفاء للقلب
إلى أن يقول في أحد مقاطع القصيدة
كلما تمضي هكذا
البهجة تغمر قلبي
كلما غبت عنك زمنا
أصابت روحي العلل