أحمد الجلنداني
muznsamail@gmail.com
أن تعشق السفر لحد الهوس أمرٌ ليس سهلا بل ضرب من الجنون المباح خاصة عندما يكون ما حولك هالة كونية تدعوك للترحال كمشاهدة أسراب الطائرات التي تقطع السموات المفتوحة ليل نهار أو سماع أحاديث المسافرين والمرتحلين أو متابعة برنامج عن رحالة أو قراءة أحد إصدارات أدب الرحلات يجوب بك المؤلف فيها الدنيا وأنت على سريرك الدافئ محلقا بك من دولة لأخرى ليذكرك بهذه الحتمية والضرورة الملحة التي تقتات على ملل أرواحنا الماكثة طويلا رهينة المكان والوجوه والروتين اليومي، ما يجعل هاجس السفـر ملحا لأبعد حد لدرجة ان تغزوك فيها أحلام اليقظة لترى نفسك محلقا في رحلة ما لـدولة ما في وقـت ما وأنت القابع في مكانك !
القائمة مليئة كالعادة بمختلف بلدان العالم التي عادة ما تطول دون أن تقصر وفقا للمعطيات والإمكانات والظروف المهيأة لزيارة بلد ما دون آخر . بيد أن هناك دولا تتصدر القائمة لسبب أو لآخر لن يهدأ بالها دون تحقيق الأمر على أرض الواقع وهذه ان لم يكذبني الظن مشاعة بين جميع المسافرين الذي يعشقون السفر والارتحال كغواية حقيقية وضرورة حياة يداوون فيها سأم الأرواح والأجساد قبل رحيل مرتقب عن هذه الدنيا !
من هذه القائمة الطويلة لبلدان العالم التي أطمح لزيارتها تطفو العراق دائما على السطح متصدرة المشهد مع مثيلاتها من دول أخرى تعد على الأصابع تهفو روحي لزيارتها منذ سنين طوال تعدت بعضها العقد من السنين كالعراق وسوريا واليمن مثلا التي تهفو الروح لزيارتها وتعبت من أحلام المنام واليقظة دون ان تتحقق هذه الأماني لأسباب أكثرها يعود لظروف هذه الدول الأمنية والاجتماعية والتهويل الإعلامي السالب لها ليس على يدي وسائل الإعلام فقط وإنما أحيانا أهلها أو بعض المرتحلين إليها !
لكن أن يظل المرء على هذا الحال فلن ينجز شيئا خاصة لظروف الحياة والموت والصحة والفراغ والمقدرة المالية ولكن على حد قول الشاعر ” ولكن إلق دلوك في الدلاء” بمعنى أن لا خيار إلا المغامرة التي هاجس الخوف يدفعها جانبا عنا ! متناسين أن الحياة في حد ذاتها مغامرة وفواصل مراحلها لا تخلو من المغامرة ، لا كأن المرتحلون المرتحلين القدامى كان ارتحالهم في ظروف ذلك الوقت مغامرة حقيقية قد يفقدون خلالها حياتهم فضلا عن ظروف وأحوال عدة تعرضوا لها حتما تزخر بها مدوناتهم الرحلية القديمة . وكما قال صديق ذات حكمة تعقيبا على الأمن شبه المستقر في بلاده أن بلاده هكذا ديدنها وأهلها يولدون ويرحلون على الانفجارات والاختطاف فإن أردت زيارتها فغامر بالزيارة كما يوحي سياق حديثه وإلا فلن تزورها أبدا ! وهكذا إذا ! يبدو أنه لا بد مما منه بد !
من هنا كانت شرارة الفكرة وانطلاقتها .. زيارة العراق الحبيب – هذا القطر العربي كباقي أقطار الوطن العربي الكبير الذي تصبو النفس إلى تحقيق حلم زيارة أقطاره – الذي كان حلما مؤجلا حالت دونه ظروف وظروف كان بينها صعوبة التحصل على تأشيرة زيارة دينية إليه فضلا عن السياحية !
إذا آنست الروح خلال هذا العام إلى فكرة المغامرة – كما يخيل إلي – بالذهاب إلى العراق في وقت حرج ربما خاصة مع الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة التي طالت هذا البلد أيضا كما طالت إيران في غضون العدوان الغاشم على غزة الأبية فطوحت صواريخها قاعدة للحشد الشعبي في محافظة بابل ، فضلا عن هجوم تخريبي بمسيرة على حقل غاز في اربيل إحدى محافظات الشمال في إقليم كردستان المستقل الذي كان من ضمن مخطط الرحلة الأساسية في أنحاء العراق .
كان الأمر منتهيا بالنسبة لي رغم تحذيرات بعضهم واعتذار بعض الرفاق من المشاركة في هذه الرحلة غير الآمنة لبلد غير مستقر كالعراق في نظرهم ومحاولات الأهل المتكررة لإثنائي عن هذه الزيارة خاصة في هذا الوقت الذي يعيش فيه الشرق الأوسط على صفيح نار فعلا ، وهكذا امتطيت المجهول وابتعت تذكرة ذهاب لي إلى بغداد دون ان أحدد موعد الرجوع وهي عادة استحدثتها عبر أسفاري القليلة لأني مزاجي الطبع لا أعرف كم سأمكث ، ومتى ولا أي المطارات ستسوقني الأقدار إليها للرجوع إلى الديار حيث الوطن الحبيب وأهله .
كنت قد قرأت عن العراق وبعض مدنه وآثاره وأماكنه السياحية ومزاراته الدينية وأسواقه وملامحه الاجتماعية بما فيها مطبخه الغني رغم شح الكتابات الرحلية عنه إلا من تقارير إعلامية أو ما نشره مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي عنه أو أحاديث الأصدقاء من أهله أو ممن زاره وحل به ضيفا ذات مرة أو مرات على الأكثر حيث من يزور العراق لا يلبث إلا أن يعود اليه زائرا مرات أخرى !
كان يوم جمعة يحمل رقم السادس والعشرين من روزنامة التاريخ لشهر أبريل ؛ يوم حلق بي بمعية باقي المسافرين طائر شركة السلام الناقل الاقتصادي العماني والوحيد المباشر وقتها إلى العراق حيث حط بنا في مدرج مطار بغداد الدولي في يوم تشي فيه ارتفاع درجات الحرارة بصيف ملتهب كالعادة في هذه البلاد المعروفة بارتفاع درجة حرارة محافظاتها في فصل الصيف باستثناء محافظات إقليم كردستان الشمالية التي تعد متنفسا ومصيفا حقيقيا لأهالي المحافظات الأخرى في البلاد .
” يكفيك من نعم الحياة صديق ! ” ما أخطأ الشاعر الحق حين قال بيتيه الشعريين الرائعين
وتضيق أنفاس المدى وتضيق … ويجيء في ثوب الخلاص رفيق
ما أجمل الدنيا بمن نسلو به … يكفيك من نعم الحياة صديق !
محظوظ من لديه صديق ، ومحظوظ مرتان من لديه أصدقاء في أي أقطار العالم يقدمون له خدمة جليلة أو أقلها نصح ما قد يكون في أمّس الحاجة إليه!
كان لتشجيع الكثير من الأصدقاء من داخل العراق وخارجها وخدمات النصح المجانية دورا كبيرا في هذه الرحلة فضلا عن جهودي الذاتية لاستقراء المشهد السياحي في جمهورية العراق .
أنا مدين بالفعل للعديد من الأصدقاء من عمان ومن العراق في رحلتي هذه أخص بها الصديق المصور خالد الرواحي، والشاعر الرائع الربيعي عبد الرزاق الربيعي في عمان وأخيه في العراق الدكتور عدنان وابن اخيهما الدكتور أحمد الربيعي الذين قدموا لي خدمات لا تنسى كان أقلها النصح فضلا عن أكبرها وهي استقبالي في المطار ومرافقتي شبه اليومية في بغداد في سيارة الدكتور أحمد بصحبة صديقه الرائع محمد العبودي تدثرني رعاية الشاعر الربيعي المستمرة لي وتكريس جهود أهله وأصدقائه لخدمتي في العراق ومساعدتي في أي شيء قد احتاجه منذ قبل ارتحالي ولما بعد عودتي .
كما أدين بالفضل للصديق السيد حيدر الشريفي الذي تقاسم هذه الرعاية مع صديقي الشاعر الربيعي واستقبلني مشكورا في بغداد بعد عودتي من رحلة الشمال إلى محافظة أربيل واصطحبني برفقة الصديق الشيخ حسن الجبوري الى قضاء المسيب حيث أصبح الصديقان أصدقاء بعد تعرفي على عدد من مشايخ القبائل بالمسيب والمحامي الودود رعد والدكتور علي الذي يقطر دماثة ولطفا كعادة باقي العراقيين ، فضلا عن نصائح أصدقاء ومعارف آخرين جعلت الرحلة أكثر يسرا لولا بعض المنغصات التي لا تخلو منها رحلة ما !