الكاتب: محمد بن رضا اللواتي *
نذكر القراء الأعزاء بأن غرض هذه المقالة بأجزائها الثلاثة تقديم تصور دقيق عما أسفرت عنه تحقيقات الحكماء المتألهين في الحركة والزمان، وما نجمت عن تحقيقاتهم من نتائج، لم تتوصل إليها – كما نزعم – أية مدرسة فلسفية إلى يومنا هذا، ومع شديد الأسف فإن الانبهار فالفكر الفلسفي الغربي أسبب في إهمال هذه التحقيقات القيمة والمتينة، وكأن الغرب بئر المعرفة الأوحد في أي حقل كان!
ولنفرز موجز ما قدمناه في الحلقتين المارتين خلال النقاط التالية:
1-كل متحول، بما فيه جسدك والطعام الذي تأكله والسيارة التي تقودها والعالم الذي تعيشه، فهو يحمل في ذاته “إمكانية” و “استعداد” للتحول يطلق عليه الحكماء المتألهين مصطلح “القوة”. ولولا ذلك لاستحال التحول بتاتا.
2.المتحول “يتحرك تدريجيا” سالكا طريقه من “القوة” إلى “الفعل” والتحقق، ويستنفذ في طريقه هذا الامكانات المتاحة في كيانه بتحوله الجديد.
3.يوجد نظام حاكم على هذا التحول، فلا تفقس بيضة النعامة عن فرس كما هو واضح.
4.ماضي المتحول – ويُعرف اصطلاحا بالمادة (المادة الفلسفية وليس المادة الفيزيائية) –ومستقبله ليست إلا مرحلتان وجوديتان لموجود واحد يقطعهما بالحركة.
وفق ما مر، أضحى جليا أن الحركة “خروج تدريجي” للمتحرك و”سيلان” مستمر لا قرار له أبدا، فمصب الحركة هو “قعر العالم وغوره الأعمق”، وبلغة الفلسفة: “جواهر العالم” وليست “أعراضه”.
لنوضح ذلك للقارئ:
هل بالإمكان أن توجه سبابتك للطعوم مثلا وبشكل مستقل عما هي طه له؟
أو للألوان؟ وبشكل مستقل عما هي لون له.
أو للروائح؟ بعيدا عما تلبست به وارتبطت معه؟
الطعم لا يستقل عما هو طعم له، واللون يظهر في شيء، والرائحة كذلك تنبعث من شيء. فهي “أعراض” لحقائق تحتها نطلق عليها “الجواهر”.
وعندما تكون الأعراض في حركة، فمن المحتم أن يكون “الجوهر” أو عمق العالم وصميمه متحركا كذلك، وذلك وفق البرهان التالي:
المقدمة الأولى: أعراض العالم في حركة دائبة دائمة
المقدمة الثانية: المتحرك ليس سببا في حركة ذاته لأن فاقد الشيء لا يُعطيه
النتيجة: أن عمق العالم في حركة.
يمكن صب البرهان أعلاه بشكل مختلف:
المقدمة الأولى: الأعراض متحركة
المقدمة الثانية: الأعراض متوقفة في وجودها على الجواهر
النتيجة: أن الجواهر متحركة[1].
إذن، عمق العالم في حركة، وهو يستهدف بحركته بلوغ آخر الفعليات المتاحة له في قابلياته، حتى يستنفذها كلها، ببلوغ مرحلة الفعلية التي تجتمع مع أية قابلية أخرى لا تزال متبقية وتنتظر دورها في الخروج. إذن العالم برمته حادث، بل يحدث على نحو مستمر لا توقف له إلى بلوغ الفعلية الأخيرة.
وهكذا، فقد بلغنا تخوم نظرية “الزمان الجوهري”[2]، فظاهرة الزمان ليست نتاج حركة الأعراض، وإنما هي نتاج حركة صميم العالم، حركة العمق الأكبر للطبيعة وكيانها الدقيق المسمى “بالجوهر” فالزمان جوهري للغاية قبل أن يكون عرضا من أعراض هذا العالم.
فخلافا لمن ظن أن الزمان امتداد موهوم لا واقعية له في الخارج كأبي البقاء[3]، ولمن اعتقد أن الزمان جوهر مستقل بذاته خلقه الله ثم خلق فيه العالم كالمتكلمين، ولمن رأى أن الزمان مفهوم ننتزعه من الحركة ليس إلا كالارسطائيين[4]، وخلافا أيضا عمن توهم أن الزمان ليس له وجود خارج الذات المفكرة كالكانطيين[5]، وخلافا كذلك للفلاسفة ما قبل مدرسة الحكمة المتعالية في المحيط الاسلامي ممن قالوا بأن بأن الحركة تتعلق بالأعراض ولا تغور في الجواهر، ذلك حتى لا ينتفي وجود علة الحركة.
فلقد غلب على ظنهم أن مصب ومجرى الحركة هي سطح العالم، بينما تمتاز أعماقه وبنيته التحتية بالثبات، وبذلك فسوف يتمكنون من الإجابة عن سؤال : ومن يُحرك العالم إذن؟
بناء على أن محرك العالم لا ينبغي أن يكون متحركا، فقد جعلوا عمق العالم وجوهره “ثابتا” وهكذا أرجعوا علة حركة المتحرك إلى الجوهر الثابت، إلا أن التطور الأعلى في الفكر الفلسفي الاسلامي زحزح هذا التصور من خلال “الملا صدرا الشيرازي” عبر مدرسته الفلسفية “الحكمة المتعالية” باكتشافه للحركة الجوهرية في البنية التحتية للعالم، وما حركة الأعراض إلا نتيجة لوقوع الحركة في الجواهر. بل برهن على أن هوية العالم لا تعدو أن تكون غير الحركة.
كتب “الديناني” في “القواعد الفلسفية” يقول: “الحكماء الذين سبقوا صدر المتألهين الشيرازي، لم يعترفوا بوجود الحركة فيما هو أكثر من المقولات العرضية الأربع. غير أن هذا المفكر الكبير قد أثبت ولأول مرة في تاريخ الفلسفة الاسلامية ومن خلال سلسلة من البراهين المحكمة أن الطبيعة في حد ذاتها سيالة ومتحركة. وأن أية حركة في أية مقولة من المقولات العرضية، تابعة للحركة في الجوهر الجسماني لهذا العالم. فطبيعة هذا العالم مضطربة دائما وفي حالة مستمرة غير أن هذه الحركة ليست عمياء، أو بدون هدف، وإنما تسوق قافلة الموجودات ومسيرة الكائنات نحو الهدف المتعالي، ولا توجد لحظة توقف واحدة في هذا السير التصاعدي والسفر الدائمي الذي يملأ جميع أرجاء الكون”[6].
فقد سبق وتبين للقارئ العزيز، أن حامل الاستعداد هو “المادة”، التي تتخفى دائما على هيئة فعلية ما، وفي الواقع، فإن هذه المادة تشكل عمق العالم الغائر في القعر السحيق، وقد اكتشف وجوده، لأول مرة في تاريخ الفلسفة، الحكيم “محمد بن إبراهيم الشيرازي” صاحب مدرسة “الحكمة المتعالية” التي تُعد أعلى مرحلة في هرم الحكمة الالهية والفلسفة الأولى[7].
ولكن، كيف عالجت مدرسة الحكمة المتعالية الاشكال العويص التالي:
بما أن فاعل الحركة لا يمكنه أن يكون المتحرك نفسه حتما، لأن حيثية “القوة” هي “الفقدان”، بينما حيثية “الفعل” هي الوجدان، ومن المحال أن يغذي الشي نقصه ويجبر فقره فيضفي على ذاته ما لا يملكه!
إذن: فاعل الحركة ينبغي أن يكون غيره.
فإن كان ذلك الغير، والذي يحرك عمق العالم وجواهره، متحركا، لأضحت سلسلة الوجود كلها متحركة، وحادثة. ومن الواضح أن سلسلة الحوادث لا يمكنها أن تتصاعد إلى ما لا نهاية.
وإن لم يكن متحركا، وهذا هو الوجه المنطقي للمسألة، فكيف تنتسب إليه المعلولات المتحركة، ولا تناسب بين المتحرك والثابت؟
عالجت الحكمة المتعالية هذا الاشكال بأنت برهنت على أن هوية الجوهر هو التجدد الذاتي والحركة التدريجية، والمتجدد بالذات لا يحتاج إلا إلى علة توجده، أي توجد هويته المتجددة، لا أن توجد فيه الحركة! ومعنى هذا أنه لا تركيب في عمق هوية الجوهر من “ذات” و من “حركة” ، بل أن العلة مانحة لوجود بسيط وهو الحركة. وبعبارة “الصدر”: “إن عالم المادة في تطور وتجدد مستمر، فإن حدوث العالم على هذا الاساس نتيجة حتمية لطبيعته التجددية. ولم يكن لحدوث العلة وتجدد الخالق الأول”[8].
وبعبارة “الديناني”: “لا تحتاج صفة السيلان والتحرك في هذا الموجود إلى الغير، لأن هذه الصفة ذاتية، ومتى ما كان الشيء ذاتيا، فلن يحتاج إلى العلة، وهكذا يتضح أن ما يُفاض عن المبادئ العالية أو الذات الأزلية هو صرف وجود الطبيعة الذي هو سيال ومتحرك في حد ذاته. وبعبارة أوجز: إن الله تعالى قد خلق وجود الطبيعة، وليس أنه قد جعل الطبيعة في حد ذاتها سيالة”[9]
العبارة أعلاه، تريد القول أن العلة الأولى جعلت وجود الطبيعة، ووجودها مساوق للتجدد والتصرم.
تبقت آخر نقطة في الموضوع وهي:
تُرى، ما هي آخر فعلية يسعى نحوها العالم عبر الحركة والزمان الجوهريان؟
إذ ليس من شك في أن القابلية والاستعداد وُجدا لكي يتحققا. ولن يهدأ للقوة قرار ما لم تستنفذ كل امكاناتها. ولكن، ما الذي سيقع للمادة أو الجوهر بعد أن تفنى كل إمكاناته وقابلياته؟
الاجابة لا تحتمل التردد: ستتوقف حركته!
وبتوقفها، يتصرم الزمان برمته فلا يكون.
وبفناء الزمان، سيفنى ويزول رديفه، أي المكان.
وبفناء هذين، ستغدو المادة –المادة الفلسفية المعبر عنها بالجوهر، والفيزيائية المعبر عنها بركام الطاقات- مجردة عنهما! تكون المادة بحيث قد سقطت عنها القيود التي كانت تكبلها وتحصرها في زنزانة المكان، وسقط عنها الزمان الذي كان يشتت أوصالها في ماض ومستقبل. وبزوال الحركة وتوابعها، يتحقق بُعد جديد للمادة، يٌعرف بالبعد الثابت. هذا البعد يمنحها طاقات جديدة لا عهد لها بها سابقة. في الواقع فإن استقرار المتحرك في وعاء الثبات معناه انسلاخ ماديته عنه. تلك المادية التي كانت قد أوقعته على صراط الحركة ليس إلا لأجل بلوغ رتبة التجرد. فغاية الحركة الجوهرية هو التجرد[10]. معنى ذلك أن العالم نهر عظيم تسبح فيه موجوداته بالانتقال عبر الحركة التدريجية من حال إلى حال حتى بلوغ ضفاف التجرد.
التجرد المار ذكره متكررا كغاية الحركة الجوهرية ليس إلا “البعد الروحي” الذي تتصف به المادة خلال سيرها على صراط الحركة وباقترابها التدريجي من ذلك الأفق الأعلى.
يقول المطهري: “الروح نفسها نتاج لقانون الحركة، وهذا القانون مبدأ لتكون المادة نفسها، والمادة قادرة على أن تربي في حجرها موجودا يضاهي ما وراء الطبيعة، ولا يوجد في الحقيقة حائل يحول بين المادة وما وراء الطبيعة، ولا مانع من ان تتحول المادة بعد اجتيازها لمراحل الرقي والتكامل الى موجود غير مادي”[11].
ويقول: “الروح ليس أثرا للمادة، بل هي كمال جوهري تحصل عليه المادة وهي في مرتبة من مراتبها التكاملية”[12].
إننا أيها القارئ العزيز أمام طرح يرى بأنه “ومن خلال الحركة الجوهرية يتم إثبات أن النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء، فهي أول النشأة جوهر جسماني ثم تتدرج شيئا فشيئا وتتطور إلى أن تنفصل عن هذه الدار إلى الدار الآخرة”[13].
هذه الرؤية، فضلا عن الأدلة المحكمة التي طرحها “الشيرازي” على صحتها، والتي تناولتها الكتب المتخصصة بالشرح[14]، تلغي الغربة الغريبة والاثنينية بين البعد الروحي والبعد المادي تماما، وهي رؤية تنجسم كثيرا مع ما نجده في أنفسنا من تداخل ووحدي بين سائر أبعاد الكيان الواحد. فلقد رحل التصور عن المسافران الأجنبيان اللذان يلتقيان في عربة واحدة من عربات العالم المادي، أحدهما ينتمي إلى العالم العلوي، والآخر إلى العالم السفلي.
ختاما: نقل “اليازجي” عن الفرنسي “ريمون” أبحاثا لجمع من كبار علماء الفيزياء والفلك والبيولوجيا، صاغها في 6 نقاط جاء في أولها: أن “الكون والكائنات والاشياء التي نألفها، ليست الا الوجه الآخر لموضع جوهري وفريد من نوعه. وجاء في النقطة الرابعة : “الكون المادي ظاهرة متجلية للروح”. وتحت عنوان “مستويات الطبيعة وخططها” قال: “اعترف علماء أفذاذ، مثل “جون إكله” الحائز على جائزة نوبل في حقل فيزيولوجيا الاعصاب عام 1971، والامريكيين “دوبس” و “برت” بوجود كون نفساني يتألف من عناصر نفسانية تخترق الكون المادي الذي نألفه”[15].
فهل بالإمكان الاستنتاج، أيها القارئ العزيز، أن الفيزياء بدأت بشق خط موازي للحكمة المشرقية؟.
المصادر:
[1] الأسعد، عبدالله: دروس في الحكمة الالهية ج2ص274. مصدر سابق
[2] الطباطيائي، محمد حسين: أصول الفلسفة والمذهب الواقعي: ج3ص152. مصدر سابق
[3] مجاهد، عبدالمنعم مجاهد: الزمان: الموسوعة الفلسفية العربية ج1ص467
[4] توكلي، سعيد نظري: حكماء مدرسة إصفهان وخلق العالم من العدم ص324
[5] مجاهد، عبدالمنعم مجاهد: الزمان: الموسوعة الفلسفية العربية ج1ص467
[6] الدنياني، الدكتور غلام حسين الابراهيمي: القواعد الفلسفية العامة في الفلسفة الاسلامية ج2ص110.
[7] المسلم، صادق: إبداعات صدر الدين الشيرازي الفلسفية: النفس نموذجا. ص68.
[8] الصدر، محمد باقر : فلسفتنا ص203. مصدر سابق
[9] الديناني، غلام حسين الابراهيمي: القواعد الفلسفية العامة ج2ص215. مصدر سابق
[10] الطباطبائي، محمد حسين: أصول الفلسفة والمذهب الواقعي ج3ص138.
[11] المطهري، مرتضى: أصالة الروح ص18 ترجمة: محسن علي.
[12] المطهري، مرتضى: أصالة الروح ص18 مصدر سابق
[13] حلباوي، الدكتور علي أسعد: أصالة الوجود عند صدر الدين الشيرازي ص169.
[14] الحيدري، كمال: فلسفة صدر المتألهين: قراءة في مرتكزات الحكمة المتعالية. بقلم: رزق، خليل. ص 330.
[15] اليازجي، ندره: دراسات في فلسفة المادة والروح. ص218 و221. مصدر سابق
- كاتب عماني متخصص في الفلسفة الإسلامية. له عدة كتب، منها: برهان الصديقين، البعد الضائع في عالم صوفي ( رواية فلسفية )، المعرفة والنفس والألوهية في الفلسفة الإسلامية والمدارس الغربية، وغيرها