د. حمد بن مبارك الرشيدي
لم يكن خلف السليماني وهو يقرأ لي خبرا في الجريدة ببدء التسجيل بمعهد العلوم الشرعية بعد توقف دام لسنوات، أنه كمن ألقى لي بحبل نجاة من بحر كدت أغرق فيه وكان الخبر كقطر السماء صادف أرضا يبابا فأنبتت من كل زوج بهيج، لقد سرني الخبر وعزمت على الانتقال إلى حيث موطن العلوم الشرعية والعربية وحيث الجلوس بين يدي العلماء كسماحة المفتي الخليلي والشيخ سعيد القنوبي وكان لابد لي وأنا اتخذ هذا القرار المصيري أن أشاور فيه من هو أكبر مني سنا وعقلا فذهبت إلى الشيخ محمد بن سعيد المعمري الذي كان وقتها إماما بجامع الجامعة والذي أصبح الآن وزيرا للأوقاف والشؤون الدينية وكان رجلا سمحا رقيق الحاشية ولطالما أنست بالحديث إليه ومدارسته فأخبرته برغبتي فهش وبش وشد على يدي وحملني بنفسه في سيارته وسجلت في المعهد وأعطوني ورقة أوقعها من ولي الأمر وشيخ المنطقة، وذهبت إلى البلد ولم أكن أعلم بأنه ستكون هناك معارضة قوية لهذا الانتقال فقد قامت البواكي والمناحات في البيت ممزوجة بالإغراءات المادية واتهمني البعض بالجنون فمن يترك الجامعة التي هي مهوى الأفئدة حينها وكانت العوائل تفاخر بأبنائها إن هم التحقوا بها واذهب إلى معهد كان بالنسبة لهم نكرة من النكرات غير معروف مصير المتخرجين منه، فلهذا قمت بتمزيق ورقة التسجيل ورجعت عازما على المكوث بالجامعة، فلما وصلت الجامعة، دلفت على الشيخ محمد المعمري وأخبرته الخبر، فشجعني على المعهد وأوصاني بالصبر والإصرار وأن الأهل إن لاحظوا إصراري فسيوافقون في نهاية المطاف، وفعلا أخذت ورقة التسجيل مرة أخرى وذهبت البلد فلما رأى أبي رحمه الله إصراري قال قولته التي كانت بردا وسلاما على كبدي: (دعوه على هواه)، وحينها انطلقت بورقتي للمعهد وكان لابد من مقابلة تجتازها للولوج للمعهد فسألني وقتها الشيخ عبدالله بن سعيد المعمري في المقابلة :لماذا تركت الهندسة وجاهها إلى الفقه مع قلة غنائه وكساد سوق أهله؟ فأجبته ببيتين من قصيدة العلم لأبي مسلم البهلاني:
دع المهندس بالأشكال مغتبطا& وصاحب النجم يرعى النجم إن طلعا
وأقصد فقيها بنور الله مشتعلاً& يريك ما ضاق عنه الجهل متسعا
فقال: ما شاء الله ما شاء الله!!
وما زال يتعجب من هذا الجواب زمنا، فقبلت بحمد الله في المعهد وألقيت به عصا التسيار واستقر بي النوى بين إخوة كرام لم أشهد في حياتي كلها فضلا كفضلهم في حسن سمت ورسوخ علم ومسارعة للخير وأساتذة عظام :
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم& مثل النجوم التي يسري بها الساري
وعشت بين جنبات المعهد أربع سنين مضت كأنها حلم لذيذ ليتني لم أفق منه.