الكاتب : خالد محمد عبده
“لا يزال شعراء العالم الإسلامي يتغنّون بمصير الحلاج، العاشق القائل بمذهب وحدة الشهود والثائر اجتماعيًّا، الذي يدين الشعر الألماني له، باعتباره الفراشة التي تلقي بنفسها في اللهب لتتذوق تجربة أو معاناة ؛مماتي في حياتي وحياتي في مماتي..” أنّا ماري شيمل.
“إذا ساقوني كالمنصور (الحلاّج) إلى الأعواد فلن يُزعجني أن أُسلِم الروح؛ لأن العيش إلى نفاذ..” فريد الدين العطار.
“نال الحلّاجُ الجزاء الذي يستحقه لأنه باح بالحب، ومن يبوح بسر الحب ويكشف ستر المحبوب ينال العقاب، حتى وإن كان فيض الحب الذي دفعه للصراخ وكشف المستور، أكبر منه..” أسد الله غالب الدهلوي.
“وصلَ الحلاّجُ في الظّاهر إلى الصّليب! وفي الباطن إلى الحبيب”! سنائي الغزنوي.
كان حسين بن منصور الحلاَّج يسير راقصاً نحو المشنقة، حيث يواجه العقوبة عن قوله: “أنا الحق”.
كان كل الواقفين هناك يرجمونه بالحجارة.
فأمسى غارقاً في دمائه، حتى بدا تجسيداً لها.
غير أنَّ صوت “أنا الحق”” وإيقاع رقص الحلاَّج … كانا منجذبين إلى بعضهما، فيما تتناثر دماؤه بسرعة متناهية هنا وهناك مصاحبةً هذا الصوت: ” أنا الحق .. أنا الحق”، وهو ما زال يسير ضاحكاً.
كان بين الواقفين الذين يرجمونه بالحجارة هناك رجل يعرِف المنصور حقَّ المعرفة، ويَعِي أيضاً ما يقوله، ولِمَ يرقص وهو متَّجهٌ صوب المشنقة، كما يعرِف أيضاً لِمَ تتجاوبُ أصداء صوت “أنا الحق””. لقد كان يعلم أنَّ المنصور برئ؛ فأَنَّى لحسين بن منصور الحلاَّج أن يكون هناك، ما هنالِك سوى صوت الله. وما رقصُ الحلاج إلا حركةً مترنِّمة لهذا الصوت، وما ينبثق عنه من وَجد إنما هو أثره الفعَّال.
تقدَّم هذا الرجل – الذي كان واقفاً بين الرَّاجمين بالحجارة- إلى الأمام،
و رجم المنصور مترَفِّقاً بوردة جميلة.
ثم تاه بين الناس … إذ كان يتوجَّسُ أن يلحظ أحدهم هذا الذي رجم الحلاَّج بوردةٍ جميلة وسْط وابل الأحجار.
أما حسين بن منصور الحلاَّج – الذي كان مغموراً بدمائه وسْط معمعة الرَّجم المتلاحق.
هذا الذي كان يحتفل راقصاً بأبهج فرحةٍ في حياته.
هذا الذي كان يضحك بلا انقطاع، و ما زال يسير كما هو ضاحكاً.
– إذا به يصمت على نحو مفاجئ.
ثم راحت الدموع تتقاطر من عينيه.
ولما استخبره أحد الواقفين إلى جواره قائلاً: “لقد كنت تضحك لتوِّك، و على الرَّغم من انغماسك في الدماء كان رقصك متواصلاً ، وصوتك صَدَّاحاً. فما الذى أصابك بغتة حتي تبكي؟”
و لِمَ أجهشت بالبكاء فجأة بعد أن رجمك أحدهم بوردة؟
ردَّ عليه المنصور بقوله:
” إنَّ الرجل الذي رجمني بالوردة يعلم أنني برئ، لكنه لم يجرؤ على أن يقول – أمام كل هؤلاء الناس الذين يرجمونني بالحجارة-: إن المنصور برئ، إنهم يرجمونني لأنهم لا يعلمون، وأنا أدعو الله لهم قائلاً: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون. إن هؤلاء الذين يرجمونني بالحجارة تباعاً ويدمون جسدى هكذا دون أن يعرفوا الحقيقة كلهم أبرياء، أخبرني أنت! بماذا أناجي الله فى شأن هذا الرجل الذي يوقن ببراءتى، ولكنه لم يجرؤ على المجاهرة بها، ماذا أسأل الله له؟ إنما تتقاطر الدموع من عيني؛ لأنه إن كان قد رجمني بوردة فهذا لعلمه ببرائتي، غير أنه لم يستطع أن يستبسل ليصارح الناس بأن المنصور برئ!”
نسج هذه القصة الكاتب الهندي شكيل الرحمان اعتمادًا على مرويات فريد الدين العطار في كتابه “جماليات الرومي” وترجمها عن الأوردية هاني السعيد ضمن مشروعه لترجمة الكتاب في صورته الكاملة التي تظهر قريبًا.
أحبُ أن أسمع وأقرأ كلام الحلاج عن نور النبوة وعن الحق والحقيقة وعن الفراشة والمصباح .. كلامُ المحبّ لا مثيل له ولا يُطلب من غائب عن النور أن يدرك النور أو أن يرى النور. لكنني لا أجد في كلام آلاف المؤمنين عن موسى أو عيسى أو محمد ما يحرّك المشاعر ويجعل الجسد ينتفض من رقاده كما يفعل صاحب الطواسين بأحرفه المقطعة التي كتب بها.
حروف الحلاج إلهية لا بشرية .. حينما يصف النبي بما وصفه به من أراده أن يكون قاب قوسين أو أدنى .. ويقول عنه: ما كان محمد أبا أحد .. ما دخل في حائه أحد .. أنطق لسانه .. أثبت بنيانه .. رفع شانه .. الحقيقة فعلا لا تليق بالخليقة .. والخواطر عوائق تحجب عن صاحبها ما يصل إليه المحب وحده .. أحبَّ محمدا ربه فوصله كما أراد .. وعاش الحلاج معنى النبوة فأدرك ما لا يصل إلى غيره، فتحدث من قلب مكافحاته فلم يعد يشكّل فارقًا عنده .. كأني .. وأني .. وهو وأنا .. وهو ..
أغمض الحلاجُ عينه عن الأغيار فأبصر.. فمن تحدث عن محمد وموسى وعيسى وهو يبصر كل هذه الآلاف غير المؤلفة قلوبهم كيف يصلنا منه شيء يعبر عن نور النبوة في ظل عتمة حياته!
قالَ الحلاّج: يا بنيّ الأديان كلّها لله عزّ وجلّ، شغل بكلّ دينٍ طائفة لا اختيارًا فيهم بل اختيارًا عليهم، فمن لام أحدًا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنّه أختار ذلك لنفسه، وهذا مذهب القدريّة، والقدريّة مجوس هذه الأمّة. واعلم أنّ اليهوديّة والنصرانيّة والاسلام وغير ذلك من الأديان هي ألقابٌ مختلفة وأسامٍ متغايرة، والمقصود منها لا يتغيّر ولا يختلف”. [أخبار الحلاّج ومعه الطواسين، ص 54] Top of Form
لم يخف الحلاجُ مذهبه عن معاصريه من الصوفية، ولم يضن بكلماته على أحدٍ من عموم النّاس، كان ينطقُ بالحقِّ؛ لأنه كان بالحقّ متّصلاً، ولعل أشعاره وأخباره التي وصلتنا تؤكد مسلكه هذا، قال الحلاّج يومًا: يا أهل الإسلام أغيثوني، فليس الله يتركني ونفسي، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها. ومما يعبّر عن ردود أفعال الناس تجاه بوحه وتصريحه، ما قاله هو بنفسه: “ليس للمسلمين شغلٌ أهم من قتلي”. وكان يقول: إلهي، إن هؤلاء الجماعة قد أتعبوا أنفسهم فيّ برمي الحجارة عليّ، فاعف عنهم، واغفر لهم بتعبهم، ولا تجعلهم محرومين من أجور الإطاعة في أمر الشرع.
سأل أحدهم هل قال الحلاج : أريد أن أموت على دين المسيح ؟
نسب إلى الحلاج بالفعل أنه قال:
ألا بلغ أحبائي بأني … ركبت البحر وانكسر السفينه
على دين الصليب يكون موتي … ولا البطحا أريد ولا المدينه
[ ديوان الحلاج بتحقيق الشيبي وبولس نويا، ص 69 مقطعة رقم 92]
وقد حقّق الشيبي في شرحه للديوان صحة نسبة هذين البيتين له .
وفي أخبار الحلاج [نشرة ماسنيون ص 80،81 قطعة رقم 52 ] ترد رواية على النحو التالي: (سمعت الحسين يقول في سوق بغداد:
ألا أبلغ أحبائي بأني ركبت البحر وانحسر السفينه
ففي دين الصليب يكون موتي ولا البطحاء أريد ولا المدينه
فتبعته فلمّا دخل داره كبر يصلي ، فقرأ الفاتحة والشعراء إلى سورة الروم فلما بلغ إلى قوله تعالى(وقال الذين أوتوا العلم والإيمان) الآية. كرّرها وبكى. فلما سلّم قلت: ياشيخ تكلّمت في السوق بكلمة من الكفر ثم أقمت القيامة ههنا في الصلوة فما قصدك؟ قال: أن تُقتل هذه الملعونة وأشار إلى نفسه. فقلتُ : يجوز إغراء الناس على الباطل. قال:لا . ولكني أغريهم على الحق؛ لأن عندي قتل هذه من الواجبات، وهم إذا تعصبوا لدينهم يؤجرون.
وينقل ماسنيون نصًا من لطائف المنن للشعراني (ط مصر 1321، 2/ 84) روى فيه المصنف عن أبي عباس المرسي الصوفي الأندلسي أنه كان يقول : “أكرهُ من الفقهاء خصلتين : قولهم بكفر الحلاج، وقولهم بموت الخضر عليه الصلاة والسلام . أما الحلاج فلم يثبت عنه ما يوجبُ القتلَ، وما نقل عنه يصح تأويله نحو قوله: على دين الصليب يكون موتي، ومراده أنه يموت على دين نفسه، فإنه هو الصليب وكأنه قال : “أنا أموت على دين الإسلام وأشار إلى أنه يموت مصلوبا”. ويوجّه الشيبي البيتين بقوله :موت الحلاج يكون على نسق نهاية المسيح بالصلب، قربة إلى الله وضربا بالمثل للبشر وتثبيتا للعقيدة، والخلاصة: أن الحلاج أراد أن يكون مسيح الصوفية في الفداء والتضحية ليثبت له مشربهم وقد كان . ويردد أكرم أنطاكي نفس تحليل الشيبي لمقولة الحلاج في تقديمه لأخبار الحلاج مع هادي العلوي ص38 : الصليب ..مفتاح الحياة .. ورمز تقاطع الروح والمادة من خلال الخلفية الواعية لذاتها .. ومن خلال كل هذا .. هو الحياة الأزلية المنبثقة من موت الإله ..إن لم نقل.. هي الفداء الذي جعل السيد الغريب يصيح من أعماق إسلامه وقد تجلت الحقيقة أمام عينيه.
ويرى عبد الحكيم حسان في الفصل الذي عقده لدرس أشعار الحلاج في كتابه (التصوف في الشعر العربي ص 376 ط الأنجلو 1954) أن الحلاج في هذه المقطعة يعبر عن حاله واستهلاكه فيه ، ويؤثر هذا الأسلوب في التعبير عن حبه وتنبئه لنفسه بالصلب على أنه نهاية له، وشخصية الحلاج دائما لا تأنس إلى المألوف ..