د. سمير الخليل
يظل الخطاب الرومانتيكي جزءاً متوّهجاً وتوجهاً مركزياً متجذراً في الهاجس الشعري والتعبيري ويتمظهر الإحساس العاطفي في المساحة، والفضاء الشعري بخاصيّة اكتسبت الديمومة والدلالة حتى أن الشعر حين يُذكر فإنّه يشير إلى مناخات وإحالات تتجسّد فيها الروح الرومانتيكي، والغواية والحلمية وفي تاريخ الشعر بل في كل العالم كانت البواكير هي أناشيد محبّة وتوق، واحتل الغزل بكل دلالاته، وتجلياته أقدم أنواع الشعر وأهم الأغراض سواء في حضارة العرب أم حضارات وتراث الأمم الأخرى، فالشعر هو تعويذة الشعور والتعبير وأعمق الأحاسيس هي أحاسيس العاطفة المتأججة التي تؤطّر كل مسعى، وكل نظرة، وكل تأمّل، فظاهرة ارتباط الشعر بالتوق الرومانتيكي هي ظاهرة إنسانية وجودية، وهي ذاتها، وبكل عنفوانها في مجمل تاريخ الشعر وتاريخ الإنسان منذ وجد على أرض المعمورة.
وجمالية النسق الرومانتيكي تكمن في أنه فضاء إنساني ووجودي وكوني ينطلق من مخاضات ومكابدات الشوق ووصف المرأة، وأحوال الهيام، يستعير معاني أخرى، يقدّمها الشاعر على شكل انزياحات، لكنّها لا تغادر التوق القديم ولا تذهب بعيداً عن تعاويذ الحب وتداعياته، وفي عصرنا الذي أصابه الكثير من العطب والتصحّر باتت القصيدة الرومانتيكية تعيش غربة حقيقية بعد أن اتجه البشر إلى عالم معقّد وصاخب ماتت فيه توّهجات التوق الإنساني فتحوّل البشر إلى اشبه ببيادق وآلات يعوزها الإحساس ويطبق عليها قانون التعقيد، وملامح التوّجهات التقنية والمهيمنة المادية وأصبح الإنسان جزءاً من الآلة وجزءاً من عالم مكتظ بالعدميّة والخفوت وموت هواجس العاطفة تحت ربقة الشفرات، ولغة التخاطب الالكترونية فوجود توّجه إلى احياء وانبعاث روح الرومانتيكية وتمجيد الاحساس، وصياغة التوق والإبحار في فضاء الخيال والعاطفة والتوّهج يعدّ نوعاً من الاحتجاج على عالم إنساني، فقد أهم خواصّه وينابيعه وموجّهاته.
العودة إلى الرومانس والخطاب الإشراقي هو توكيد على إنسانية (الإنسان) والعودة إلى الأصل وإلى الشوق المتأصل وعودة إلى احياء روح البشر في معانقة أسمى العواطف وأجمل الأحلام… والعودة إلى قصيدة التوق الرومانتيكي هي رفض للتصحّر والصمت الالكتروني، وهي رهان على أن البوح هو نشيد الإنسانية الحقيقي، وإنّ الرومانتيكية هي الحلم الذي يعتاش عليه البشر ويستند عليه لمواجهة كل أشكال الإغتراب والصدأ… الرومانتيكية هي عودة الإنسان إلى الحلم الذي يمثل سرّاً من أسرار البقاء والبهاء والغزل وليس غرضاً شعرياً قد يتعرض إلى الانقراض بل هو هاجس إنساني وجودي لا غنى لأي إنسان أو شعب أن يتماهى مع ارتحالاته ومناخاته المخملية التي تعيد تشكيل وجدان الإنسان وتعمّق الروح الإنسانية المحلّقة.
هذا الاستهلال إفاضة حتمتها الفكرة ونوع من المقدمة على شكل احتفاء بتجربة ديوان (أغاني الحب) للشاعر العماني ناصر الحسني الصادر عن (دار كنوز المعرفة- الأردن، 2016) وهو يعيد صياغة الوجود والإنسان والحياة على شكل تراتيل عشق اشراقي بلمسات تمزج بين المرأة وعشق الموجودات وأنسنة الوقائع والتأملات المؤطرة بالروح الرومانتيكية.
بدءاً من العتبة الإغوائية الأولى أعني العنوان وانتهاءً بكل تجليّات البوح المترع بالجمال والاحساس والمزج بين عشق المرأة وعشق الوطن وعشق القيم المتعالية وكل هذه التوّجهات الشفيفة تؤذن بميلاد نصوص تعيد صياغة العالم، وفق حلمية شفيفة ووفق رؤية تعيد هيبة وجلال النزوع الوجداني، واستظهار للقيم والمناخات الإنسانية، فالإنسان مهما اغترب ومهما نال من التطور يبقى عبارة عن احساس ووجدان وكتلة من المشاعر، وقد اقترن العنوان بحزمة من الإيحاءات عبّر عنها ارتباط الغناء بالحب قبل أن يصدح الإنسان ويغني فإنّه امتلك لحظة وجود مضيئة ومشعة، ولا أغاني إلاّ بالحب، وليس ثمة حب بلا أغنية، وحين نتفحص النصوص في هذا الديوان نجد كثيراً من الدلالات والموجهات من خلال استعارة المفردة المحلقة والصورة الموحية والترميز الشفيف، ونجد الاستهلال ووصف أحوال ومكابدات العشق الحقيقي، وتمثلاّته ونجد ظاهرة مانعة وذكية في التركيز على لحظات الوجود، ولحظات الإنسان المكتظّة بالجمال والشعور والإنهماك العاطفي.
ويبقى البوح هو سيد كل الخطابات بألقها وتجذرّها الإنساني:
* * *
تتبسمين والوحي
يبقى في المباسم عارجا
ومواسم الهجران
تبقى في العيون مواهجا
غيد لها
من لحاظ الظبي
محكمة
تقضي على
من له في الحب
غارات
بنظرة كلها
عدل ومكر
ومخمصة
تشقي بها
من له في العشق
آهات
من بعض عينيك
هذا الحفل يرتحل
ومن سنا خدّيك
هذا الحقل يحتفل
من بعض عينيك
هذا الطفل ينطلق
ومن ضيا خديك
هذا الشبل يختلقُ
يستل لليل العشق
من جفن راية
وراية تغفو ليلها
وتسامرُ…. (المجموعة: 7- 9).
ويمكن تشخيص ولع الشاعر في الميل إلى الشعر العمودي، وإلى توظيف توقيعات التفعيلة في خلق وصياغة الصور الشعرية، مع خروجات بصرية لمقاطع عمودية مع تنوع للقوافي، ونجد في معظم نصوص المجموعة ترسيخاً لظاهرة اسلوب التكرار، توكيداً للمعنى وتعميقاً للإحساس:
سلامي
على من كانت الروح
لها تهزّ وتطرب
سلامي
لها مثل ما غنت
حمامة ترد وتشجب
سلامي
لها مثل ما حج
الحجيج واجب ومحبب
سلامي
لها مثل ما طل
الجديد بفجره ويغرب… (المجموعة: 17).
ثم ينتقل إلى اسلوب التكرار بأداة الاستفهام (متى) ودلالاتها الزمنية:
متى يكون الحبّ
جواً غائما؟!
متى يكون العشق
خصباً دائما
متى يكون الحب
صبّاً هائما؟!
متى…
يكون العشق قلباً صائما؟!
عندما نتبادل
كلمة أحبك
يكون كل هذا الحب
يكون كل هذا العشق
في انتظاري (المجموعة: 18).
وغالباً ما يلجأ الشاعر ووفق الموجه الرومانتيكي إلى اقتران عشق المرأة بعناصر ورموز الطبيعة باعتبار أن العودة إلى المرأة وإلى التوق هو في حقيقته عودة إلى البدء وإلى ينابيع الطبيعة، ونجد بنية التكرار في هذا النص أيضاً وفق توظيف جمالي ودلالي في الفعل (كتبتك):
كتبتك
شهقة عذريّة
كتبتك كل ألوان
الصباح
كل ألوان المساء
كتبتك كل ألوان
الشتاء
كل ألوان الخريف
كتبتك بلا ألوان
بلا ديوان
أبحث في كل المناهج
والفصول عن حروف
عن رسوم
أبحث في كل الدفاتر
والحقول
عن رائحة الحبر
عن كاعبة الصدر
أبحث عنك
فيك
ولم أجد
طيفك.. (المجموعة: 22- 23).
وفي مجمل النصوص نجد بطبيعة الحال مكابدات العشق من فراق ولوعة وهيام وقد وظّف الشاعر قاموس البوح العاطفي ومفرداته الدالة والجميلة، فالمرأة سواء أكانت كائناً أخّاذاً أم رمزاً أم فكرة فهي تعني الديمومة والخلود المحلّق:
ظلي معي…
حتى نحرّر كل شيء
في هذا الوجود
ظلي معي.. حتى نفتح معاً
كل أبواب المدينة..!
كل أبواب الخلود (المجموعة: 25).
ونجد هذه الموجهات والمناخات والفضاءات والبوح الرومانتيكي حتى في تناول موضوعات غير وجدانية مثل وصف المسجد، وتبتّل العارفين والتواقين لقيم السماء، وقيم التمجيد الإلهي:
في المسجد…
عشق وهدى
قد يكون الصوت فيه
وصدى…
يا أحبّائي دربنا… درب الأُباة
ليس فينا من يخون الأوفياء.. (المجموعة: 49).
ويفضي بهذه الترتيلة في مقطع آخر:
عزّنا القرآن
نحيا ونموت
نمسك العروة
نوراً وهدى.. (المجموعة: 50)
ونجد مثل هذا التوظيف الشفيف والأسى العميق في مناجاة مدينة غزة ومكابداتها:
كلّ الشعر… وكلّ القوافي لغزة الجريحة
أحلى السلام… وأحلى المحبة
وأحلى الوئام
لغزّة المليحة
أغلى الكلام
وأغلى المحبّة
وأغلى الوسام
غزّة…. (المجموعة: 51- 52).
ويمكن الاستدلال على براعة الشاعر لاسيما في توظيف الاستهلال الموحي والجميل كما في قصيدة (خمر عينيك):
إن لي
من عينيك سكر
فهما لي
إن شئتِ سكن وقرّ
وإلا إنْ شئت فهجرُ
فلقلبي…
منهما خصب وفجر.. (المجموعة: 56).
ونجد قصائد أخرى تتغنى بالوطن والاحتفاء بالأمكنة المؤثرّة لاسيما نص (محلاح) وهو مركز ولاية دماء والطائيين، كما يعرفه الشاعر:
لمحلاح نكتب
حبّا عظيما
لمحلاح نعشق
صدقا كريما
ومحلاح…
في القلب… (المجموعة: 61).
ونجد نصوصاً تتوغل في رصد اليومي والمهمل مثل قصيدة (حيث أنا طال) التي تجسّد سيرة الطالب وعشقه للعلم والدراسة:
يتجمع الرفاق..
يتنفس الصباح
تغرّد العصافير
تجتمع الأمهات لتوديعنا
واضعات جزءاً من
حجابهن
حتى منتصف الوجه.. (المجموعة: 75).
ويصل الشاعر في نص (لماذا) إلى ذروة البوح واستثمار الاستفهام بـ(لماذا) وتكراره في النص خمس عشرة مرة وهو توظيف لتقنية واسلوب التكرار وفي النص لوعة واحتراق واسئلة حيرى:
لماذا تدمع عيني هذه الأيام؟!
لماذا تذرف الدموع؟!
لماذا لم يتوقف كلّ هذا الحزن؟!
لماذا أبريل يعيد لي الكذبة
لماذا أشعر بالحقيقة..
لماذا الكون كلّه كذبة… (المجموعة: 80).
ديوان (اغاني الحب) ارتحال في البوح وفي اشواق الإنسانية إلى الحلم والتحليق والبحث عن الجمال واضفاء الحس الإنساني وإعلاء شأن الوجد لتأسيس رؤية اشراقية موحية ودالة.
بقي أن نشي
ر إلى أنّ الشاعر أحياناً يشغله الموضوع في لغته الشعرية فتأتي بعض جمله لا اشعاع كثير فيها، ولكنه يتصرف بالايقاع وصوغ القوانين بما يحتسب له.