الكاتب: مرتضى بن حسن بن علي
ما رُسّخ من اجتماع “القمة الخليجية” الاخير في الكويت، أعطى انطباعا ان مجلس دول التعاون ما عاد مثلما كان محطاً للآمال والطموحات في مجال تطوره. اقل ما يقال من الانطباع الأولي ان المجلس غير قابل للتطور في صيغته الحالية ان لم يكن مرشحا لمزيد من الانحسار والتراجع في سياق الأحداث والتغييرات المتتالية.
وأمام هذه الدول التي أوجدت مجلس التعاون وما أودع أهل المنطقة فيه من آمال وطموحات، وهم يرونه يتأكل من الداخل، عليها اما ترميم الصيغة الحالية وإعادة الحياة لها أو أن تبحث عن صيغ جديدة قابلة للتطور. ولكن ترك المنطقة من دون أية صيغة للتعاون والتنسيق بينها سوف يعرضها لطموحات الخارج وهذا الفراغ سوف يُشّعر شعوب المنطقة ان حكوماتها بكل ما ادعت من إنجازات بدأت تدخل في منطقة خذلان طموحات شعوبها. المنطقة لا بد لها من صيغة تعاون وتنسيق وعكس ذلك سوف تواجه تداعيات وخصوصا في هذه المرحلة التي تتسم بموجات جديدة ومختلفة من الاضطرابات والصراعات.
هناك تحديات عديدة وكبيرة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية تواجه دول مجلس التعاون مجتمعة ومنفردة. فعلى الصعيد الاقتصادي فإن المجلس مثّل فرصة تاريخية لدول الأعضاء لتشكيل تكتل يحسب له حساب ما على الصعيدين الإقليمي والعالمي نتيجة امكاناته المالية ودوره المحوري في أسواق النفط وملاذا أمنا في منطقة تعج بالصراعات. والأزمة الحالية تترافق مع حروب دموية مستعرة في سوريا واليمن والعراق وعدم استقرار في مصر ولبنان إضافة الى الصراعات الموجودة في باكستان وافغانستان وتوتر بين إيران والولايات المتحدة وبعض الدول الخليجية. هذه الأزمة أسهمت بالأضرار بسمعة المجلس وتراجع لمكانته الاستراتيجية على المستوى الإقليمي والدولي والى نظرة دوله لبعضها البعض ولمفهوم الدفاع الخليجي المشترك وتحول النظرة من دول حليفة إلى دول تتعامل مع بعضها البعض بحذر، وتأثر السياسات الدفاعية من قوات درع الجزيرة والنظام الصاروخي في الخليج، ومشاريع التكامل الإقليمي الخليجي.
الأزمة أيضا تسببت في إشاعة عدم اليقين والارتباك وتصاعد احتمالات عدم الإستقرار، كما انها ستلحق مزيداً من الضرر بالثقة في الأعمال التجارية، وتؤثر سلبا على تدفق الاستثمارات الأجنبية ودفع المستثمرين ان يكونوا أكثر حذراً وترددا تجاه أسواق الخليج، بل قد تساهم في هروب الموجودة منها والتي كانت قليلة أصلا. كما أنها بكل حمولتها الثقيلة ستؤثر على التجارة البينية بين دول الاعضاء التي كانت أصلا متدنية ولا تتجاوز 10% مقابل 60% بين دول الاتحاد الاوروبي و٤١% في منطقة التجارة الحرة لأميركا الشمالية “نافتا” و٣٥% في شرق آسيا، وتؤدي ايضا الى حروب الموانئ واحتدام التنافس من اجل التوسع في بنائها بشكل يؤثر على ربحيتها على المدى الطويل. وتأثيرات ذلك ستكون أشد إذا اخذنا التحديات التي ستواجهها من الموانئ في باكستان وإيران وجيبوتي وغيرها كما ان الازمة سوف تهز صورة المنطقة كمركز أو حلقة ربط لشبكات الطيران الواصلة بين الشرق الأوسط وأوروبا واسيا والقضاء على الآمال المعقودة بأنشاء شبكة الغاز الموحدة ومشروع القطار الخليجي.
هناك أيضا النفط الذي كان الشريان الحيوي لكل ميزانيات الخليج الذي تتراجع أهميته في معادلة الطاقة العالمية امام زحف بدائل الطاقات المتجددة والأكثر نظافة من الناحية البيئية. هناك أيضا مشكلة الحدود المتنازع عليها التي هي بمثابة القنابل الموقوتة والتي قد تنفجر في اية لحظة.
هناك قضايا التعليم والتدريب والاتمتة وضرورة اجراء إصلاحات جذرية هيكلية فيها، والتي تساهم في تدفق العمالة الوافدة التي وصلت الى مستويات غير مقبولة اذ انها تشكل اكثرية القوى العاملة في جميع الدول فضلا انها تشكل غالبية السكان في أربع دول هي: الإمارات والبحرين والكويت وقطر. وتبلغ العمالة الوافدة ١٩ مليون فرد وترتفع الى ٢٣ مليون فرد بعد اضافة أفراد الأسر وهذا العدد يمثل نحو 50% من مجموع سكان الخليج. وتقدر قيمة الأموال المحوّلة قرابة ٨٠ مليار دولار سنويا. والمبلغ كبير مقارنة بالمستويات العالمية كما ان هذه المبالغ المحوّلة تشكل ضغوطات متزايدة على ميزان المدفوعات لهذه الدول مع الانخفاض في أسعار النفط الذي يعتبر المصدر الأكبر لاحتياطيات هذه الدول من العملات الأجنبية. اضافة الى كل ذلك فان هناك احتمالات ان تمارس الضغوط على دول المجلس مستقبلا لمنح العمالة الوافدة الجنسيات الوطنية.
وبسبب الضعف الشديد في النظامين التعليمي والتدريبي وطبيعة الاقتصاد الريعي غير المنتج وعدم قدرة أجهزة الخدمة المدنية من استيعاب مزيدا من المواطنين فإن مشكلة البطالة سوف تزداد وتسبب مشاكل اجتماعية وسياسية وأمنية مترافقة مع المشاكل العديدة الاخرى في المنطقة وحولها والعواصف والزلازل المدمرة التي تحيط بها، كما أن هناك تحدي زيادة السكان وما سوف يشكله من ضغوطات على الانظمة التعليمية والصحية والخدماتية وسوق العمل.
مع وجود هذه المشتركات بينها فلن تستطيع أية دولة مهما كبرت أو صغرت ان تواجه هذه التحديات بمفردها. ولذلك هناك ضرورة ملحة لإيجاد مداخل للحلول وعكس ذلك فان الأزمة قد تأخذ تعبيرات ليست من صالح أحد. ولا شك ان الخطوة الاولى لإدراك هذه التعبيرات هو التشخيص السليم للازمة من كل جوانبها وأخذ مخاوف الأطراف المختلفة من جوانبها الأمنية والسياسية والاجتماعية والمواجهة الواقعية للجذور الحقيقية لهذه الازمة وغيرها من الأزمات.
ان وضع استراتيجيات متكاملة لن تكون أكثر تكلفة من استمرار الازمة وتداعياتها. وهذه الحقيقة لا بد ان تستحث كل العقول وكل الضمائر الخليجية من خيار الانفراط. علينا التفكير على ضرورة ايجاد كيان مختلف وتفادي جوانب البطلان التي واجهت التجربة والتي ادت الى هذه المشاكل. المنطقة لا بد لها من ايجاد صيغة تجمعها في إطار تعاون قابل للنماء الى إمكانيات تدعم طاقات هذه الدول وتعضيد قدرات كل واحدة منها، صيغة منفتحة امام النماء المستقبلي والامكانيات المستقبلية. ولا سبيل للاختيار الا إذا اصابنا جنون جماعي.
نأمل وندعو الحكومات ان لا تترك المنطقة في فراغ. وان لم تتدارك ما حصل وتعمل جاهدةً على منح حياة ثانية للمجلس والبحث عن صيغة جديدة التي تكون متفادية لأسباب التراجع ومرشحة للنماء، فان المسألة سوف تكون مرشحة لتداعيات أخطر.
المنطقة لا يمكن ان تترك مثلما هي. ينبغي التفكير بصيغة جديدة. وعكس ذلك فان المنطقة سوف تكون مرشحة للمخاطر، من دون اية صيغة تعاونية والى خلق الفراغ، والطبيعة ذاتها تكره الفراغ الذي سوف يتيح المجال لبعض العناصر من النفاذ خلاله.
لا يجوز عدم الاكتراث أو عدم السعي إلى صيغ أقوى واشمل وأحسن لهذه المنطقة. لا يمكن ترك المنطقة معرضة لطموحات الدول المختلفة. ليس ضروريا ان يكون لنا موقفا موحدا في كل شيء ولكن على الأقل يكون لنا نسقا واحداً.
واعتقادي ان ما يليق بِنَا جميعا وما يليق بأمالانا وما يقتضيه مستقبل المنطقة في الوقت نفسه، يفرض ان تتصدى هذه الدول الهمم لكي تتخطى الظنون. والمخرج الذي يتعلق به أملى هو ان تنتبه العناصر المستنيرة في المنطقة سواء في أوطانها او مهاجرها الى مهمة واقعة عليها -وليس على غيرها-وان تتقدم جميعا الى دور الفاعل، وليس دور المراقب. والى دور المؤثر ، وليس دور المهتم.
ان المنطقة رغم الازمة وحمولاتها الثقيلة ، ورغم النفايات المبعثرة على تخومها، ما زالت تملك طاقات وموارد عديدة ومؤهلة للتغيير والتجديد.
لكن هناك في اعتقادي ضرورة للسعي لخلق تيار عريض متوافق ونشيط لاستكمال عملية درس وتحليل واستيعاب عوامل الازمة وتطوراتها ، علّه يستطيع التأثير والتوجيه وألقاء شعاع كاشف على بداية طريق الحل.
وبايجاز نقول انه يتعين علينا ان نوّلي اهتماما لوضع الخليج ولعالمنا العربي برمته، لا ان يكون منبع هذا الاهتمام متمثلا فقط في اننا نواجه جدول اعمال جديد من المخاطر السياسية والأمنية والاجتماعية كالبطالة والتخلف والعجوزات وهجرة العقول ، بل ايضا لان ظواهر من هذا القبيل قد تتفاعل مع مخاطر قديمة وتفاقمها، كالحروب الاقليمة والأهلية واحتجاز الرهائن والتطرف وما يصاحبه من إذكاء الفتن التاريخية القديمة بين المسلمين والمشاكل الحدودية ، وكلها سوف تشكل اسبابا إضافية للصراعات المختلفة.
واذا اخذنا بعين الاعتبار هذا العدد الكبير من المشاكل فان عدم ايجاد حلول لها سوف يؤدي الى مواجهة استمرارية الصدمات والانسحاقات في الحياة الاجتماعية وعلى نطاق جماعي ومكثف تتسع بشكل متواصل. واذا كان الامر على هذه الشاكلة فسوف يكون من الحمق ان تفترض اية دولة او اية طبقة اجتماعية او دينية انها قادرة على ان تنأي بنفسها من تغيرات المستقبل والتي تكون بعضها غير متوقع ومفاجئ في مجالات السياسة والاجتماع والأمن.
هذه الحقيقة توفر لنا نقطة بدء حيوية، الامر الذي بالطبع أفضل بكثير من جهلنا الأعمى للتغيرات التي ستجتاح منطقتنا وعالمنا.
ان قوى التغيير تنطوي على تسارع وتعقد هائلين ومرٌوعين. ولكن لا تزال هناك لدى العقلانيين من الرجال والنساء فرصة بان يقودوا مجتمعاتهم في هذه المهمة المعقدة المتمثّلة بالبدء لصنع مستقبل مختلف. وأيما يكون الامر، وإذا ما أخفق أهل الخليج -مثل بقية العرب-في الاستجابة لهذه التحديات، فلا يلومنّ الا أنفسهم اذاء المشكلات والكوارث التي قد تكون لهم مستقبلا بالمرصاد.