أحمد بن مبارك النوفلي
تعدد تعريف القيم لدى المعاصرين، وذلك بسبب اختلاف الحقول المعرفية، فهناك رأي للمعرفة الفلسفية وآخر للمعرفة الاجتماعية وكذلك تعريف للمعرفة النفسية والدينية، وبعيدًا عن كل هذا التعدد إلا أن كلمة القيم قدمت اليوم معنى يحمل المعيار الأخلاقي الثابت الذي يقاس به سلوك الإنسان وتصرفاته وفكره في تعامله مع غيره على المستوى الفردي والجمعي.
بهذا المفهوم طرح القرآن منظومة أخلاقية عالية ليلتزم بها الإنسان مع غيره، منها: الرحمة والعدل والإحسان والصدق والأمانة والكرامة، وهي ما تعرف اليوم بالقيم الكونية، ونحن نعلم الاختلاف الفكري والفلسفي حول نشأت الأخلاق هل هي فطرية أم مكتسبة؟ وعلى اعتبار اكتسابها فإن بعض الأخلاق يكتسبها الشخص من البيئة التي ينتمي إليها، فمن هنا تتكون القيم الفردية والجماعية.
نلحظ أن البيئة الاجتماعية لها دور كبير في تكوين القيم، فالأسرة قبل شيء هي المساهم الأكبر في تكوين القيم، ثم الدين، وبعدها الثقافة الاجتماعية في بلده، ويتبعها التعليم، وأخيرًا البيئة بصورتها الواسعة، فنحن نلحظ أن الشخص يستمد منذ صغره تكوينًا أسريًا على آداب وأخلاق وقيم متعارف عليها في الأسرة، وهي التي تأمره وتنهاه عن فعل شيء أو تركه، إلى أن يعتاد عليه، ولأن الأسرة تربي أبناءها على الدين الذي نشأت عليه من قبل آبائها فيبدأ الابن يستمد الأخلاق والقيم من الدين لاعتباره مصدرًا إليهًا، فيأخذ منه معتقداته وتصوراته وقيمه، فمن هنا اعتبر الدين مكوّن أساسي في قيم الفرد، سواء بالتذكير أو بالتأسيس.
وكذلك الثقافة في المجتمع تساهم في التأثير على الفرد، فمن طبيعة الإنسان حينما يحتك بمجتمع ما ويعيش فيه يتأثر ويأثر فيقبل كثيرًا من القيم الاجتماعية التي يشترك فيها المجتمع فيما تعرف بعد ذلك بالعادات والتقاليد، وأما التعليم فهو بيئة التدريس الذي يغرس القيم بطريقة تربوية ممنهجة لينشأ عليها الإنسان، بالإضافة إلى تأثر الأقران ببعضهم بعضًا في بيئة التعليم.
وأما البيئة بصورتها الواسعة فهي تكسب الفرد قيمًا ربما بعدما يقيمها وفق ما نشأ عليه منذ الصغر، ففي البيئة يلقي الشخص بالصالح والطالح، وفي البيئة يمرّ بمواقف مختلفة في الحياة، فيتعلم منها بعض القيم التي يقتنع بها ويحب أن يتمثلها في تعامله مع الآخرين، سواء مرّ بهذه المواقف في السفر أم في الوطن، في تعالمه مع الجموع أم الأفراد، فهذه المواقف تؤثر عليه سلبيًا وإيجابًا، فيأخذ منها ويترك.
عندما تعددت مشارب تكوين القيم تعدد تصنيفها، إذ لم يكن للقيم تصنيف واحد يعتمد عليه، فظهرت تصنيفات عديدة بناء على معايير مختلفة، إذ ذكر رضوان زيادة في كتاب (صراع القيم، ص33-34) بأن التصنيف الذي أورده عالم الاجتماع الألماني سبرانجر من أكثر التصنيفات استخدامًا في دراسة القيم، فقد قسمها إلى ست مجموعات وهي: القيم الدينية، والقيم السياسية، والقيم النظرية، والقيم الاجتماعية، والقيم الاقتصادية، والقيم الجمالية.
ويمكننا إضافة قيم أخرى، فهناك قيم النفسية والقيم الوظيفية وهذه تختلف وفق مجال الوظيفة فلكل وظيفة قيمها ومعايرها الأخلاقية، وقيم التربوية، والقيم العلمية، وغيرها، فيبدو لي أن تصنيف القيم لا ينتهي، بيد أن كلها تشترك في القيم العليا أو الكونية التي أشرت إليها في بداية المقال، لكون كل الإنسانية تشترك فيها، ويبدو تعدد تصانيف القيم هو المكتسب، بينما القيم العليا لا تكتسب بل تكون موجودة وحاضرة داخل الإنسان منذ أن يبدأ يعقل الحياة، فما من عاقل إلا ويعرف بأن الرحمة فضيلة يجب التعامل بها مع سائر المخلوقات من بشر وغيرهم، وكذلك العدل وقس عليها، فهذه لا تحتاج إلى التنشئة والاكتساب، فهي تكون حاضرة في ذات الإنسان، أي هي جزء لا يتجزأ من خلقته النفسية أو العقلية أو الروحية.
ولئن كانت الحكومات الغربية تعتبر نفسها متمثّلة للقيم الإنسانية بمفهومها الواسع، كالعدل والحرية والرحمة وحقوق الإنسان، إلا أن حرب طوفان الأقصى التي بدأت بتاريخ 7 أكتوبر 2023م، عرّتها من كل هذه القيم، فإسرائيل وأمريكا ودول أوروبا تشاركت في هذه الحرب ضد أهل غزة، فقتلوا الأطفال والنساء، وهجموا على المشافي ومنعوا الخدمات الأساسية كالماء والغذاء والكهرباء والانترنت، فظلموا المدنيين في ذلك، لقد تعاملوا معهم بكل وحشية، فهذا التعامل الهمجي ليس من القيم في شيء، مما يعني أن هذه الدول إن لم تراجع منظومتها القيمية لتنسجم مع الواقع الإنساني في أي مكان، فإنها ستخسر ثقة شعوبها فيها، وقد بدأت شعوب هذه الدول بإقامة مظاهرات تندد بما تفعله إسرائيل وترفض دعم حكوماتها لها، يتضح من ذلك أن القيم الإنسانية بغض النظر عن تصنيفها يشترك فيها جميع الناس، ومن خرج عنها خرج من إنسانيته.