د. حمد بن مبارك الرشيدي
لم أكن أعرف عن دماء والطائيين إلا أنها ولاية بشرقية عمان، وسميت (دما) لكثرة ما أريق بها من الدماء؛ بسبب الحروب الطاحنة بين القبائل، و(الطائيين) نسبة لقبائل طي القحطانية التي استوطنتها؛ فتهيبت القدوم عليها ولم أكن أعرف بها أحدا، وتلفت لأبحث عن صديق يرافقني في رحلتي لأول أسبوع لي هناك، فلم أجد إلا الشهم الأشم سالم بن ناصر الرواحي -رحمه الله- الذي تصاحبنا معه بمعهد العلوم الشرعية، وكنا نتسابق في حفظ عيون الشعر العربي وكل منا يسمع للآخر ما حفظه ثم امتدت الصحبة بعد التخرج؛ حيث عملنا معا مصححين لغويين بجريدة عمان قبل أن أنادى للوظيفة قبله، ولا زلت بعد عشرين سنة أكبر هذا الموقف منه؛ حيث ترك كل أعماله ورافقني أسبوعا كاملا! “فالبعض تعيش معه عمرا لا تذكر منه لحظة والبعض الآخر تعيش معه لحظة تتذكرها طوال العمر، لأن الذي يحتل القلوب هي المواقف وليس الزمن.
ثم خفتت تلكم الصحبة؛ بسبب تقلبات الأيام واختلاف السبل حتى فاجأني خبر وفاته بحادث سير أليم عليه رحمة الله.
لقد نشأت في الباطنة حيث سهولها الواسعة ومزارعها الممتدة امتداد الأفق، لأفاجأ بأنني أخرج من تلكم السعة إلى الضيق؛ حيث الطائيين عبارة عن واد بين جبلين يسمى أحدهما: الأبيض والآخر: الأسود وجوها في الصيف أشبه بتنور يغلي وجمرة تتقد، ولم يخرجني من ذلك الضيق إلا سعة صدور أهلها وطيبة قلوبهم، ولو أن الكرم تمثل في صورة أناس لكانوا سكانها، وأول ما قدمنا الطائيين نزلنا بضيافة سالم بن خلفان الناعبي إمام جامع محلاح (مركز الولاية)، وهو الكريم ابن الأكارم فتح لنا بيته وأكرمنا غاية الإكرام، وكان من محاسن الأقدار أن تعرفنا على خلفان بن سيف الحارثي وهو رجل مهما وصفته فلن أوفيه قدره؛ فقد بذل نفسه وماله ووقته لخدمة المجتمع، وكان معه سكن خاص للطلاب النابهين يصطفيهم من مختلف مناطق الطائيين بل بعضهم من ولايات أخرى، ويوفر لهم كافة احتياجاتهم ليتوفروا على طلب العلم والدراسة، وقد سكنت معهم وتقاسمنا العيش والملح وكانت الحوارات معهم لها لذة لا تعدلها لذة:
وَما بَقِيَت مِنَ اللَذاتِ إِلّا& مُحاوَرَةُ الرِجالِ ذَوي العُقولِ
وَقَد كانوا إِذا عُدّوا قَليلاً& فَقَد صاروا أَقَلَّ مِنَ القَليلِ
ولن أنسى ما نسيت سيف بن خلفان الرقادي الذي جاورته لما سكنت مع أهلي ببلدة (شات)، حيث كان نعم الأخ والصديق وممن يشد بهم الظهر ويعين على نوائب الدهر.
وفي خلفان وسالم الناعبي وغيرهم من الإخوان قلت ساعة الوداع بعد سنة قضيتها معهم مرت مر السحاب:
إذا ما شئت أن تحيا كريما& فيمم نحو محلاح المقاما
ستلقى فتية كالبدر نورا & وتلقى صحبة فاقوا الأناما
بأقوال وأفعال وفهم & وحب للغريب يرى هياما
ففيهم أبيض القسمات وجها & وأحلمهم إذا كنت الملاما
وأكثرهم لدين الله نصرا & وعلما واسعا وكذا إماما
أخلفان رأيتك خير خل & وبعدك لا أطيق له صياما
ابا عبد الإله علوت مجدا & وفيك خلائق نظمت وساما
ففيك لحاتم نسب وثيق & وفي المختار أيضا وابن ماما
ولا أنسى بدور الليل كانوا & وأنجمه بهم قلبي استهاما
وأبو عبد الإله المقصود به سالم الناعبي وابن ماما هو كعب بن مامة، وهو من كرام العرب بلغ من كرمه أن ضحى بحياته ليعيش غيره وما أظن صريع الغواني إلا يعنيه يوم قال أمدح بيت قالته العرب:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها & والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
يتبع..
hamedmo7979@gmail.com