موسى الزعيم- ألمانيا
ينطلق كتاب التسامح والتعايش في جنّة دلمون للباحث والإعلامي الشيخ صلاح الجودر من فرضيّة أنّ قيم التعايش والتسامح، صارتْ مفقودة في زماننا أو أنّها تعرّضت للخطفِ والمصادرة من قِبل من يُسيسونها لأغراض بعيدة، بل ومتفاوتة، يأتي ذلك في السياق الزمني الحالي الذي يشهدُ تسلّل الأيديولوجيات المتطرّفة والعنيفة التي بدأت تعيدُ انتاجها بعضُ الدوائر العالمية، ضمن مفاهيم ومصطلحات جديدة وأشكال متطورة، تحاكي الثقافة المعاصرة عبر وسائل التواصل المعاصرة والإعلام المتسارع.
انطلاقاً من هذه الإشكاليات، يُعالج الكتاب قضيّة التعايش السلميّ والمجمعي في العالم مستلهماً تجربة البحرين الرائدة في ذلك، متيمّناً بفكرة أنّ التسامح هو أقصى درجات العفو التي يتمتعُ بها البشر.
في تأصيل المصطلح: يرى الباحث صلاح الجودر أنّ هذا المصطلح ، كثيراً ما يتمّ تداوله بين الجماعات والأفراد الذين بينهم مُشتركات وتوافقات، كاللغة والدين والتاريخ والمصالح المشتركة..
ومن خلال الخيط الرفيع بين الحقّ والباطل، يبدو نور التسامح جلياً، والذي أكدّت عليه كلّ الديانات السماوية، وهو من مُجمل الصفات التي خصّها الله تعالى ببني البشر و التي يحبّها أن تتمثّل في عباده.
ومن هنا تأتي ثقة الباحث بقدرة الانسان العربي في البحرين على إنتاج فكرٍ تصالحيّ عالميّ.
يقول: ” لقد جاء هذا الكتاب، ليوضّح رقيّ الانسان في مملكة البحرين والتي تُعرف سابقاً بمملكة دلمون “
ومن هنا تأتي أهميّة الكتاب في أنّه استطاع جمع الأفقِ النظريّ العام وربطهِ بالمنهجِ العملي من خلال عددٍ من التجارب في هذا المجال والتي يسرد الباحث تاريخها وفعاليتها، داعياً المجتمعات الأخرى أن تكون مثالاً يُحتذى. لكلّ زمان ومكانٍ وودينٍ أو شعب.
فيعالج الفصل الأول قضيّة التسامح من خلال بداياته الإنسانية، باعتبار التسامح صفة بشرية أممية عامة، فمن خلالها، يؤكد الباحث على الدور المنوطِ بالأمم المتحدة في رعاية عملية السلام العالمية.
والتي خصصت يوم 16 نوفمبر من كل عام كيوم للتسامح والتعايش العالمي.
كما يطرح الكتاب فكرة التقريب بين أتباع الديانات والمذاهب، تيمّنا بالحديث الشريف ” إذا أحبّ أحدكم أخاه فليخبرهُ أنّه يحبّه ” والحديث قاعدة اجتماعية في مدّ اليد للآخر أيّا كان.
يتوقّف الباحث عند تساؤلات العصر المقلقة؛ أين نحن من الخطابات النظرية التي تجتاح العالم مثل “محاربة الفقر والجوع وقضايا البيئة والبطالة، والمخدرات..”؟!
كلّ هذه الملفّات أهملت في حين راح العالم يغرقُ في قضايا التطرف والإرهاب والعنف.
ولم يغفل عن الدور السلبيّ الذي لعبه الإعلام من خلال تحالفه مع التطرّف من خلال تأجير بعض القنوات لنفسها، خدمة لأجندات مشوهّة، مقابلَ ذلك يعوّل الباحث على الفهم الصحيح للإسلام بمفهومه الإنساني السامي الواسع، ويؤكد على الفصل بين الإرهاب والتطرف والمفاهيم الراسخة للإسلام
دين الرحمة والتآخي” وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين ”
كما يعوّل الباحث على الحوار من خلال الأمثولة التي تقول “إنّ الحقد والكراهية إذا سادا في منطقة ما، بدل الحوار والتفاهم، فلن يبقى للضّعيف صوتٌ..” من هنا تبدو أهميّة اتباع آليات الحوار مع الآخر المختلف، ليس تنازلاً وإنما من خلال التعويل على المشتركات التي تدعو إلى نبذ الاقصاء.
هنا يستشهد الباحث بالكثير من مواقف الرسول الكريم والصحابة مع اليهود والمسيحيين وغيرهم.
من جهةٍ أخرى يرى الشيخ صلاح ، أنّ فتح قنوات الحوار؛ هي البداية الأولى للإصلاح في أيّ مجتمع بغضّ النظر عن طبيعة هذا المجتمع، المهمّ أن تتهيأ الأرضية للحوار من أجل إزالة الاحتقان أو كخطوة استباقية قبل أن تتلبّد النفوس وتحدث القطيعة.
كما يرى أن للحوار أبوابٌ وطاولاتٌ وقنواتٌ يمكن أن يسلكها هذا الحوار فهو يبدأ من الذات فالأسرة فالمجتمع بمكوّناته وبالتالي تتعددُ أنواع الحوارات تبعاً لعقلية الفرد والذهنية الجمعية وهذا يفضي فيما بعد إلى التسامح الذي يرتكزُ حسب رأي الجودر إلى عدّة أسس ” عدم احتكار الحقيقة، دور القوانين في نشر فكرةِ التسامح وتثبيت دعائمها، والدعوة إلى الوسطية والاعتراف بالخطأ..”
أمّا في الفصل الثالث من الكتاب: فيتحدث عن رؤية جلالة الملك حمد بن عيسى التي تؤكّد على السياج الأخلاقي للمجتمع من خلال قيم التسامح والتعايش في المجتمع البحريني ويتجلّى ذلك في الفعاليّات التي أقيمت من أجل تعزيز ذلك.
مثل تأسيس كرسي باسم صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة في جامعة “لاسبتزا” في العاصمة الإيطالية، لتدريس الحوار والسلام والتفاهم بين الأديان.
وكذلك تأسيس مركز حمد للحوار عام 2017 ومركز الشيخ عيسى الثقافي الذي تمّ بناؤه تخليداً لذكرى الراحل ومن خلاله أُطلقت جائزة الشيح عيس بن حمد لخدمة الإنسانية .
الشيخ الجودر عضو نشط في كثيرٍ من الفعاليات
تبدو تجربة الباحث مُختمرة بما يطرحه من أفكار وقضايا عايشها في كتابه، من خلال التجربة الحياتية المباشرة ونقل هذه التجربة الرائدة في التعايش من البحرين إلى بلدان أخرى، بحيث يغدو الرجل سفير التسامح والتعايش بجدارة.
من هذه التجارب: مشاركته في مشروع “الزائر الدولي” ضمن برنامج تديره وزارة الخارجية الامريكية والفئة المستهدفة منه؛ فئة قادة الدول المستقبليين، للاطلاع على تجارب الولايات المتحدة واستشراف المستقبل وعددهم 130 زائراً
فيتحدث الباحث عن الأماكن التي زارها والفعاليات التي شاهدها وقد كان عضواً فيها في أماكن متعددة بالإضافة إلى طاولات الحوار التي شارك فبها. وهذه الطاولات ليست حكومية وإنما شعبيّة أهليّة بامتياز.
من تجربته هناك يرى أنّ المتطرفين والمتشددين في كلّ بلدان العالم يمتازون بعقليةٍ واحدةٍ وهي رفض آليات الحوار.
وكذلك مشاركته في برنامج “هذه هي البحرين” التي تحوّلت فيما بعد إلى جمعية ” هذه هي البحرين ” والذي كان عضواً في فعالياتها، وقد زار من خلالها عدداً من البلدان وشارك في عددٍ من الأنشطة في البحرين وخارجها من أجل نقل صورةٍ بهية عن بلد التعايش والمحبة.
من ذلك زيارته لعدد من العواصم الأوربية مثل باريس وروما وقد شملت تلك الزيارة عدداً من المساجد والمعابد والكنائس والبرلمانيات والهدف من وراء ذلك إزالة الغبار عمّا علق في الذهنية الغربية عن الإسلام والمجتمع العربي بعد الأحداث الأخيرة التي اجتاحت العالم ومن أجل إبراز روح البحرين الحضارية.
من تلك الفعاليات التي يؤرّخ لها الباحث في كتابه أيضاً فعاليات المعهد الدولي للسلام في الشرق الأوسط في المنامة.
وكذلك مركز اكتشف الإسلام الذي مضى على تأسيسه ثلاثون عاماً والمؤسسة البحرينية للحوار التي من أولوياتها تعزيز التماسك المجتمعي والجمعية البحرينية للتسامح والتعايش بين الأديان.
يتوقف الكتاب عند العديد من التجارب البحرينية الشعبية المتجذرة في التعايش والتسامح:
فيتحدث عن المحرق عاصمة الثقافة الإسلامية والعقول النيرة فيها، ثم يسرد بعين الخبير ابن المنطقة المجالس الأهلية فيها: مثل “مجلس بن هندي وشويطر والدوى والجودر ومجلس بوزيون” ودور هذه المجالس المختلفة في تقديم خدماتها للبحرينيين من خلال صيغة التعددية الطائفية والمذهبية وغيرها إلا أن أهم ما يجمعها هو التعايش الإنساني بالدرجة الأولى.
من هنا يأتي أيضا دور “المنامة” اختيارها عاصمة للتسامح والتعايش الديني لما تحمله من مفاتيح هذا التعايش.
يرى الشيخ الجودر في كتابه أنّ ما قامت به هذه المراكز المنتشرة في البحرين من دور إيجابي عزّز اللحمة الشعبية بين مكونات المجتمع البحريني، ليغدو قدوةً في تجربة التعايش من خلال الوعي المجتمعي وصيغة التعايش بين مكوناته ومن خلال قيادة حكيمة، استطاعت أن توصل البحرين إلى مصافّ الدول المتقدمة اقتصاديا وإنسانياً.
في المحصلّة فإن الكتاب يحمل وثيقة تاريخية لها أهميتها الزمانية والمكانية، وقد اشتغل عليه باحث يتمتع بصفات الشخصية “الموسوعية” بما يحمله من قيم الخير وسعة الاطلاع بتاريخ البحرين والمنطقة والقدرة على التواصل بكلّ يُسر وسهولة مع الآخرين.
يقع الكتاب في 160 صفحة من القطع المتوسط وهو مشفوع بالصور وقد صدر عام 2018.