أحمد بن مبارك النوفلي
سأبتعد عن اختلافات المفسّرين والمتكلمين حول معنى كلمتي؛ الرحمن والرحيم، وبعيدًا كذلك عن اختلافات المفسّرين والفقهاء حول البسملة أهي آية من الفاتحة ومن أول كل سورة ما عدا سورة براءة، وما ترتب على ذلك من أحكام فقهية في الصلاة، بيد أننا عندما نفتح المصحف فأول افتتاح في المصحف نجده في سورة الفاتحة بـ(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الفاتحة:1، مما يشي بابتداء الرحمة في القرآن.
ونستشف من ذلك أن القرآن وما يحتويه من آيات في الأمر والنهي والأحكام والإرشاد والتوجيه والوعظ والقصص والأمثال أتت كلها رحمة للعالمين، فسورة الفاتحة وما تضمه من تنزيه لله تعالى أو تذكير بيوم الدين أو استعانة بالله أو دعوة إلى الهداية والصراط المستقيم بعيدًا عن طريق المغضوب عليهم والضالين فإن السورة بأكملها هي رحمة لمن يتدبرها ويعمل بمقتضاها.
جاءت آيات القرآن هداية ورحمة للناس، فمن تدبرها وعمل بها فهو في رحمة الله رب العالمين، والشاهد على ذلك ما جاء في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا )النساء: 174-175، فالاعتصام بالله أي الاعتصام بآياته، بحيث يعمل بها قارئ القرآن، بتمثلها في سلوكه وتعامله مع الناس، من هنا يقول لنا القرآن: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الأعراف: 203.
يبدأ المصحف بالبسملة مما يعني أن ما بين دفتي المصحف من آيات هي من عند الله، فكل ما سيأتي فيه فهو باسم الله، الذي هو رحمن ورحيم، وبأنه رحمن ورحيم فما يأتي منه فهو رحمة للعالمين أدركنا ذلك أو لم ندركه.
وقد وردة لفظة (رحمة) في القرآن 268 مرة، كل ذلك يشي إلى أن القرآن كتاب رحمة، والرحمة مثلما تذكر مدوّنات المعاجم العربية من رحم، فمعناها يدل على التعطف والرقة والمغفرة، فالرحمة التي جاء بها القرآن لا تختص بالمسلمين فحسب، ولا بمذهب ولا بشعب ولا بقوم، وإنما تشمل الجميع كما قال القرآن: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )الأنبياء:107، فرحمة الله عزّوجل وسعت كل شيء (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ )الأعراف:156.
وقد يعترض معترض بأنه توجد آيات في القرآن تدل على الغلظة والقتال وهي متنافية مع الرحمة، بيد أن هذا الاعتراض لا يمكن التسليم له بالقبول، لأن الآيات يفترض أن تقرأ في سياقها، وسياق الآيات التي ورد فيها القتال جاء من أجل الدفاع النفس أو الإنسان عمومًا وهذا في حد ذاته هو من باب الرحمة للإنسان لكي لا يقتله أحد ظلمًا، فأوجب الإسلام الدفاع عنه ليبقى الإنسان إنسانًا يعيش حريته وسعادته بكل أمن وأمان وطمأنينة.
نعلم بأن فرعون كان ظالمًا، يسبي النساء ويقتل الأبناء، ومع هذا يقص لنا القرآن قصة النبي موسى مع فرعون ليدعوه إلى الإسلام فيأمره أن يتخذ معه أسلوب الرقة والعطف واللين فقال: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه:43-44، لكن لو كان ذلك في موضع القتال والحرب لأمر باتخاذ الشدة معه ودفع قتاله وشره بالقتال إن لم تكن هناك وسيلة أخرى ليدفع به.
يرى البعض أن العدالة هي أسمى القيم الإنسانية وأسها أو أصلها، ولا ريب بأن العدالة لها قيمتها في التعامل مع الناس من حيث إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأمور في نصبها، وبها يتحقق الأمن والأمان، بيد أني أرى بأن الرحمة هي أصل القيم وأسماها، ومنها تنطلق باقي القيم، فقيمة العدالة مبنية على الرحمة، فلو سألنا لماذا العدل بين الناس؟ فالجواب لكي يتراحموا، فالعدل ابن الرحمة، ولولا الرحمة لما كان هناك عدل، ولولا الرحمة لما كان هناك ود، ولولا الرحمة لما كان هناك إحسان، ولولا الرحمة لما كان هناك صدق، ولولا الرحمة لما كان هناك أمن وأمان وسلام، ولولا الرحمة لما كانت هناك مساواة.
كتب الله على نفسه الرحمة (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الأنعام: 54، لذا كانت الرحمة أصل القيم الإنسانية، عندما يتمثلها الإنسان في ذاته ويتعامل بها مع بني جنسه ستخلو النفوس من البغضاء والكراهية والشحناء على مستوى الأفراد والجماعات، وإذا ما أردا أحد بناء مجتمع متماسك صالح نافع يفترض أن يبنيه على الرحمة، فبالرحمة تتآلف القلوب وتصلح الأفراد وتقوى المجتمعات، ومهما وقع الإنسان في الخطأ فالخطأ يغتفر، لأن من الخطأ نتعلم وبالرحمة يحتوى الإنسان ليصنع منه إنسانًا ناجحًا متألقًا بناءً.