الكاتب: بدر بن سالم العبري
لمّا نتحدث عن محمد رشيد رضا [ت 1935م] فإننا نتحدث عن شخصيّة جمعت بين التّأثر بالدّعوة السّلفيّة الّتي قادها محمد بن عبد الوهاب [ت 1206هـ/ 1791م] والّتي عملت مراجعة قضيّة التّوسل بالأموات وقضيّة الأولياء والاستغاثة تحت مسمى محاربة البدع والحدث في الدّين، وبين الدّعوة الإصلاحيّة الّتي قادها جمال الدّين الأفغانيّ [ت 1897م] ومحمد عبده [1905م]، والدّعوة الإصلاحيّة امتداد لما قام به حسن العطار [ت 1835م] وتلميذه رفاعة الطّهطاويّ [ت 1873م].
ورشيد رضا أصله من جبل لبنان بلبنان، إلا أنّه تأثر بالدّعوة الإصلاحيّة مبكرا، ولمّا نفي محمد عبده إلى لبنان نتيجة مشاركته في الثّورة العرابيّة [1879-1882م] ضدّ الخديويّ توفيق [ت 1892م] والإنجليز، والعرابيّة نسبة إلى أحمد عرابيّ [ت 1911م]، ولهذا استغل محمد عبده فرصة وجوده في لبنان، وقام بإلقاء دروسه عن التّوحيد والإصلاح الدّينيّ في المدرسة السّلطانيّة ببيروت، وجمّعت دروسه في كتاب سمي برسالة التّوحيد، وهي من أهم كتب الإمام.
ومع هذا لم تحدث علاقة مباشرة بين رشيد ومحمد عبده في لبنان إلا مرتين، عدا مراسلات بينهما، بيد أنّه لم يلتقِ بالأفغانيّ، وإنّما كان التّواصل عن طريق المراسلة.
وفي عام 1898م قرر رشيد رضا الهجرة إلى مصر، فنزل الإسكندريّة فالقاهرة، وهنا توطدت العلاقة مع محمد عبده، فأنشأ مجلّة المنار، الّتي حققت صيتا شهيرا في العالم الإسلاميّ، حيث توقفت عند العدد الثّانيّ من المجلد الخامس والثلاثين لمدة سبعة أشهر بعد وفاة رشيد رضا 1935م، وبعده واصل المسيرة محمد بهجة البيطار [ت 1976م] إلا أنّه توقف بعد عددين، ثمّ واصل المسيرة الإخوان المسلمون لمدة أربعين عاما.
وإذا كان محمد عبده كتب أهم مقالاته الإصلاحيّة والسّياسيّة في العروة الوثقى مع أستاذه الأفغانيّ، فإنّ رشيد رضا خلّد دروس الإمام في التّفسير، وقام بتحريرها حتى الآية 125 من سورة النّساء، ثمّ واصل رشيد رضا التّفسير حتى وصل إلى سورة يوسف، وأتمّ البيطار سورة يوسف، وجمّع هذا التّفسير باسم المجلّة، كما أنّ رشيد رضا اشتهر باسم صاحب المنار.
أيضا كان رشيد رضا تصله العديد من الأسئلة من العالم الإسلاميّ، فيجيب عنها في المنار، ثمّ قام بتجميعها وتبويبها الأستاذان صلاح الدّين المنجد، ويوسف خوريّ، فطبعت في الدّار العمريّة عام 2005م في ست مجلّدات كبار، حوت 2779 صفحات، وتعتبر فتاويه من أنفس الفتاوى المتقدّمة والنّقديّة، وتحوي مراجعات عديدة في مسائل تصورّية وسلوكيّة وتأريخيّة وسياسيّة وقضايا حيّة، وفيها يدعو إلى الوحدة وإحياء العقل ونقد التّراث والواقع.
ومن هذه المسائل الوفاقيّة مثلا قوله: وليس من موضوع المنار تفصيل مسائل الخلاف؛ وإنّما هي مجلّة المسلمين عامّة، تخاطبهم وتعظهم بالأصل المتفق عليه عند الجميع، وهو كتاب الله تعالى والسّنة العمليّة الّتي كان عليها السّلف الصّالح بلا خلاف، ويدع لهم كلّ ما اختلفوا فيه حتى يفيئوا إلى الوفاق إن شاء الله[2]، وقوله: ولم يسلم المسلمون ممّا جرى لمن قبلهم من الأمم باختلاف التّأويل والرّوايات الآحاديّة وأهواء الرّؤساء والتّعصب للمرشدين، ونرجو أن يعودوا إلى الوفاق بالعود إلى الأصل المجمع عليه وهو الكتاب والسّنة العمليّة المتفق عليها، ويعذر بعضهم بعضا في الرّوايات القوليّة الآحاديّة[3].
وعلى العموم وجه إلى صاحب المنار من قبل جاوة بإندونيسيا خمسة أسئلة حول آلات المعازف والغناء، عنونت بالأسئلة الجاويّة في سماع آلات اللّهو، ونشرت في مجلّة المنار ج 9/ 1906م، ص: 35 – 51؛ ص 141 – 147.
وهنا أسهب رشيد رضا في الجواب حتى عوتب فردّ عليهم ردّا جميلا بقوله: رأى بعض فضلاء المصريين أننا أطلنا في هذه الأسئلة أكثر ممّا تستحق وذلك أنّه يندر في مصر من يتحامى السّماع، ولكن الجمود في كثير من البلاد على تقليد المعسّرين لا يلين إلا بأكثر من هذا، والمنار ليس خاصا بالمصريين.
وبين في فتواه أنّ سبب شيوع التّحريم على المعازف والغناء، والنّطرة السّلبيّة له أنّ كثيرا من أئمة العلماء الزّهاد شدد النّكير على أهل اللّهو لما كثر وأسرف النّاس فيه عندما عظم عمران الأمّة، واتسعت مذاهب الحضارة فيها، حتى جاء أهل التّقليد، فرّجحوا أقوال الحظر، وزادوا عليها في التّشديد، حتى حرّم بعضهم سماع الغناء مطلقا، وسماع آلات اللّهو جميعا إلا طبل الحرب ودف العرس، وزعموا أنّه دف مخصوص لا يطرب، وأنّه غير دف أهل الطّرب!!
ولهذا ذكر صاحب المنار أهم روايات الحظر وروايات الإباحة، فيرى أهم روايات الحظر تسع روايات[4]، وتتمثل في رواية مجيء قوم من الأمّة يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ورواية وضع ابن عمر [ت 73هـ] أصبعيه في أذنيه لمّا سمع صوت زمارة، وعدل عن الطّريق، ورواية تحريم الكوبة أيّ الطّبل، ورواية الخسف والمسخ والقذف الّذي سيكون في الأمّة بسبب ظهور المعازف والخمر، ورواية الرّيح الحمراء الّتي ستظهر في الأمّة بسبب عدة مفاسد ومنها ظهور القيان والمعازف، ورواية المسخ إلى قردة وخنازير بسبب استحلال الخمر وضرب الدّفوف واتخاذ القيان، ورواية أنّ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – أمر بمحق المزامير والكبارات أي المعازف، ورواية النّهي عن بيع القينات أي المغنية وشرائهنّ، ورواية ابن مسعود [32هـ]: الغناء ينبت النّفاق في القلب.
وخلص أنّه لا يصح من هذه الأحاديث إلا الأول، وستعلم مع ذلك ما قيل في إعلاله، ولهذا سيسهب في بيان علّته والاقتباس ممّا ذكره ابن حزم [ت 456ه]، كما أنّه سيكثر من الاقتباس من تحليل ونقد الشّوكانيّ [ت 1255هـ] للعديد من الرّوايات ودعوى الإجماع في نيل الأوطار.
أمّا روايات الإباحة فتمثلت في ست روايات، وهي رواية الجاريتين اللّتين تغنيان بمحضر النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – غناء بعاث، ورواية حبّ الأنصار للّهو، ورواية الجويريات اللّاتي يضربن بالدّف، ورواية الفصل بين الحلال والحرام الدّف والصّوت في النّكاح، ورواية ترخيص اللّهو في العرس، ورواية نذر الجارية أن تضرب بالدّف وتغني بين يدي النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم –.
وعليه يخلص إلى التّاليّ:
-أحاديث الإباحة مرجحة بصحتها وضعف مقابلها ونكارته.
-أحاديث الإباحة موافقة لأصل الشّيء وهو الإباحة.
-أحاديث الإباحة موافقة ليسر الشّريعة والفطرة.
– لم يرد نص في الكتاب ولا في السّنة في تحريم سماع الغناء أو آلات اللّهو يحتج به، وورد في الصّحيح أنّ الشّارع وكبار أصحابه سمعوا أصوات الجواري والدّفوف بلا نكير.
– لم يرد نص عن الأئمة الأربعة في تحريم سماع الآلات.
ومع أنّ رشيد رضا استخدم المنهجيّة ذاتها كما عند المتقدّمين عادة في ذكر الأدلّة وإبطال دعوى الإجماع، إلا أنّه يتميز هنا باستخدام القياس الفقهيّ، حيث يبرهن أنّ ما جاء فيه دعوى التّحريم إن صح فهو معلول، فمتى ما زالت العلّة رجع إلى أصل الإباحة، لهذا يرى السماع من حيث القياس الفقهيّ يدخل في دائرة الاستحباب، فيستحبّ السّماع أو ندبه إنّما يكون في الأوقات الّتي يستحب فيها السّرور كالعرس والعيد وقدوم الغائب، وما عدا هذه الأوقات والحالات مباح لذاته شريطة عدم الإسراف فيه، إذ أنّ الانصراف الزّائد إلى اللّهو والإسراف فيه ليس من شأن أهل المروءة والدّين.
يتبع: الحلقة [الخامسة والعشرون]
الهامش:
[1] للمزيد ينظر: رضا: محمد رشيد؛ فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، تجميع وتحقيق صلاح الدّين المنجد، ويوسف خوري، الدّار العمريّة، الطّبعة الأولى، 1426هـ/ 2005م، ج2، ص: 465 – 493.
ولترجمته ينظر: الموسوعة العالميّة ويكبيديا، تأريخ الزّيارة: الثّلاثاء: 30 يناير 2018م، السّاعة السّابعة صباحا.
[2] رضا: محمد رشيد؛ فتاوى الإمام محمد رشيد رضا، ج:1، ص: 111.
[3] المصدر نفسه، ج:1، ص: 112.
[4] نكتفي هنا بالإشارة إليها لأنّه سيأتي تفصيلها في مبحث الأدلّة.