الكاتب: خالد العضاض**
أوثال تملك قلبي بلا منازع بين البقاع والبلدان، وتمثل لي عمقا وجدانيا يعيى عنه الوصف، وكل بقاع الوطن الأعز الأشم لها في القلب محل ومكان، ولكن عشق ديار الأحبة والأهل والأجداد لا يلام عليه المرء، وهو الذي لا يملك منه فكاكا، استصحبت ذلك الحب وعاش معي كل لحظاتي وأنا أزور سلطنة عُمان لأول مرة، حيث كنت في رفقة العزيزين: الباحث البارز الأستاذ خميس العدوي، والأديب الباهي الأستاذ الخطاب المزروعي -وهما وجهان عمانيان مشرقان ثقافة وتسامحا وسخاء- وكانت زيارتي للتشرف بالمشاركة في المؤتمر الدولي الثاني للفكر في مسقط بورقة تحت عنوان: «الخلل الفكري المؤدي للتطرف ونصيب الخليج منه»، والذي نظمته اللجنة الثقافية بمهرجان مسقط 2018، بالتعاون مع الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، وكنت ضمن ثلة مباركة من الباحثات والباحثين من سلطنة عمان والكويت والبحرين، وخلال 72 ساعة تقريبا، رأيت وأحسست ولمست ما لو قرأت عنه مئات الساعات لم أدرك منه مقدار غَرْفة من يم، إنها عُمان العمق والإرث والأصالة.
بدأ معي الكرم العُماني من مطار الرياض، فلا يكاد يلقي عليك عُماني التحية حتى يبادرك قبل ردك عازما جازما عليك بالمبيت أو الطعام في منزله أو على الأقل الوعد بالزيارة، وهذا تركني في شوق يسابق الدقائق المتبقية لصعود الطائرة للوصول إلى هذا البلد الطيب المضياف.
أول ما يلفت نظرك في العاصمة مسقط وبقية المحافظات، ذلك النظام وتلك النظافة اللذان لا يعكر صفوهما ورونقهما معكر، طرق متينة، ونظيفة ومرتبة ومجمَّلة، ومركبات تسير بانتظام بلا تهور ولا أمزجة ينقصها الصفاء والهدوء، وحينما تخرج إلى الطرق السريعة بين المحافظات تستغرب من بقاء شجر السمر -الذي يسيل له اللعاب في مثل هذه الأيام- على حاله بلا أي احتطاب حتى ولو «احتطاب رفيق»، وهذا ناجم عن القانون الذي سنته الجهات المسؤولة وطبقته بكل صرامة.
ومع البرنامج المتخم الذي رسمه لنا أصدقاؤنا الأعزاء هناك، كان لزاما علينا رؤية بعض من أبرز المعالم في مسقط العاصمة، فكانت الوجهة الأولى دار الأوبرا السلطانية، وعلى الرغم من عظمة واحترافية الإنشاء والتشييد، والتصميم الداخلي على أكمل طراز عالمي، إلا أن الملفت الذي سرقني من البنيان هو الشباب العماني الذين تلقاهم في أرجاء الدار للترحيب أو الوصف والشرح، لفت نظري ذلك التمكن من المادة، وذلك الذوق الرفيع والسلوك عالي التهذيب عالي الأنفة والعزة، والذي لا يقل عن الشاب الخليجي والسعودي متى ما أتيحت له الفرصة المناسبة.
كانت أولى المحطات خارج مسقط: مدينة بهلا التي تباهي الشمس، وتزهو على القمر، قلعتها تنتصب كالطود الأشم الحارس لقلوب ناسها الطيبين، وسورها سِرُّها الذي لا يُشَيِّدهُ بشري مهما بدت مبررات الحبيب القريب من القلب الأستاذ خميس العدوي مقنعة.
وبهلا إحدى مدن محافظة الداخلية التي تتميز بكثافة نخيلها وأفلاجها -والفلج: عبارة عن قناة مائية مصدرها فجوة في مكان مرتفع في طبقة صخرية-، وعُمان تعتمد منذ قديم الزمان على نظام الأفلاج في الري، حتى إن لجنة التراث العالمي التابعة لليونيسكو قامت بإدراج خمسة أفلاج عمانية ضمن قائمتها العالمية.
والمدينة مسورة ومحصنة بسور دفاعي يعتبر ثاني أطول سور في العالم بعد سور الصين العظيم، وقلعتها التي يرجع بناء أجزاء منها لفترات ما قبل الإسلام هي أول موقع بسلطنة عُمان يضم إلى قائمة التراث العالمي في عام 1987، وتحتوي المدينة على العديد من المعالم المعمارية والأثرية والثقافية، وتاريخ بهلا ضارب في القدم، وتمتد بجذورها في أعماق التاريخ، واشتهرت بتخريج العديد من العلماء الذين طبعوا بصمة واضحة في الساحة الفكرية في عُمان والعالم العربي، وتقوم مكتبة الندوة العامة في بهلا بجهود تفوق الخيال في حفظ التراث البهلاوي، وتوثيقه.
أما المحطة الثانية خارج مسقط: فقد كانت ولاية الرستاق، هذا الاسم الفخم، والذي لا يقل عن فخامته، فخامة ناسها وإنسانها، بلدة عجنت بينابيعها الساخنة، وريحها الطيبة، لتصنع نساء ورجالا أُباة يقاومهم الزمان ويعجز عن المقاومة، يحفظون التاريخ ولا يحتويهم تاريخ، يباهي بهم المجد ولا يتباهون بمجد.
كان دليلنا فيها الأديب العماني -المحلق في فضاءات غير مرئية- الخطاب المزروعي، وعلى طريق الأدباء الذين يُكثفون النص ويُحملون الكلمة ألفَ معنى، اختصر علينا الزيارة القصيرة بينبوع وساقية وبستان وجبل وشيخ علم ضرير، لنخرج من زيارتنا وكأن تاريخ الرستاق الذي فاق ألفي سنة زوي لنا في ساعتين.
والرستـاق تزخر بموروث تاريخي كبير، أبرزها قلعـة الرستـاق الـتي بنيـت قبـل الإسـلام بأربعـة قرون، وتعد ثاني أكبر قلعة في عُمان بعـد قلعـة بهـلا، وكذلك حصن الحزم الذي بني في عام 1714، ويعتـبر من أروع بدائـع الفن المعمـاري الإسلامـي العُمانـي، وكـذلك الجـوامـع والمسـاجـد القـديمـة، أبرزهـا جامـع البياضـة ويقع داخل قلعة الرسـتاق.
ويجدر بي الحديث عن الإنسان العُماني، فالفتاة العمانية جاوزت السحب علما وأدبا وحشمة وثقة بنفسها ومنجزها وبلدها، وكان من سوء حظي أن أشارك الشاعرة العمُانية شُميسة النعماني، والتي لا تقل قدرتها العلمية والبحثية عن شاعريتها الطاغية، حيث طَوّحت رياحها العلمية بورقتي شبه العلمية، كيف لا وهي القائلة: (وكَم طَائِف بالقَلْب مَا لَه حَجَّــة وَأَنْت بِلا طَــوْف تَحُجّ وتَعْمُر)، كهذا البيت كانت تمارس الفروسية المعرفية على منبر الجمعية العمانية للكتاب والأدباء.
استطاعت سلطنة عُمان أن تقدم نموذجا فاضلا مثاليا خليجيا وعربيا، على إمكانية التعايش، متى وظفت الفتوى، والتفسير الديني الممكن في سبيل تسهيل أمور الناس وحياتهم، وتحت مظلة واسعة تحوي الجميع، وهي مظلة التسامح وتجريم الطائفية والعنصرية بأي شكل كانت، حيث قام الفقهاء والمثقفون يدًا بيد على تحويل المخزون الفقهي من مادة نظرية بحتة إلى تطبيق عملي أخلاقي بالمقام الأول، مع ترك مساحة معقولة للاختلاف الهامشي والتباين الفرعي، مما أنقذ المجتمع العماني من التشنجات والصراعات التي لا مبرر لها، ولهذا تسري روح السلطنة بداخلك أول ما تضع قدمك على أرضها، روح الوئام والسلام، فسلام على السلطنة، وسلام على أرضي الغالية ووطني الأبيّ المملكة.
*نشر المقال في صحيفة ” الوطن أون لاين ” السعودية بتاريخ 28/1/2018
**كاتب سعودي وشارك مؤخرا في ندوة عن الفكر الخليجي في الجمعية العمانية للكتاب والأدباء