خالد محمد عبده- باحث في التصوف
بدأ ابن العربيّ مبشّراته بمقدّمة تأصيليّة استند فيها إلى القرآن الكريم وأحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الصريحة التي تؤكّد على أنّ المبشّرات “جزءٌ من أجزاءِ النُّبوَّةِ” وهي نتيجة من نتائج الرُّؤْيَا الصالحة، يخصّ الله بها أنبياءه وعباده الصالحين. ويذكّرنا ببداية الوحيّ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبرؤيا يوسف عليه السلام، ورؤيا إبراهيم، وما أوحى الله به إلى أمّ موسى. ثمّ يشير إلى أنّ الرؤيا على ثلاثة أقسامٍ. رؤيا من الله تعالى، وهي المُبشّراتُ. ورؤيا من النَّفْسِ، وهي التي يُحدّثُ بها الرجلُ نفسَه في اليقظةِ. ورؤيا من الشيطانِ، وهي المُفْزِعةِ. يُحزنك بها الشيطان.
فضّل ابن العربيّ أن لا يذكر في المبشِّرات إلّا ما اتصل بالقسم الأوّل من الرُّؤًى، وهو المُبشّراتُ، وخصّ من المبشّرات ما حدّه بقوله: “ممّا رأيتُه في المنامِ، ما يثبت حكمًا، أو يفيد علمًا، أو يحضّ على طاعة”. وبلفظ آخر “ما رأيتُه في المنامِ، ممّا تعود منه منفعةٌ على الغيرِ، وتُعِينُ على أسبابِ الخير، وما يختصُّ بذاتي فلا أحتاجُ إلى ذكره”.
ويلاحظ أنّ ابن العربيّ فعل ذلك مرارًا في أعماله، فقدّم لنا في الفتوحات المكّيّة() جملة من المبشّرات، وبدأ كتابه فصوص الحِكم بمبشّرة تفيد علمًا، وتترجم بالحرف ما يُلقى في القلب من معاني ومعارف. سرد ابن العربيّ المبشّرة على النحو الآتي: «رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مُبشِّرة أُرِيتُها في العشر الآخر من المحرّم سنة سبع وعشرين وستّمائة، بمحروسة دمشق. وبيده صلّى الله عليه وسلّم كتابٌ، فقال لي: هذا كتابُ فصوص الحِكم. خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به. فقلتُ: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولى الأمر منّا كما أُمرنَا. فحقّقتُ الأمنيّة، وأخلصتُ النِّيَّة، وجرَّدتُ القصدَ والهمَّة إلى إبراز هذا الكتاب، كما حدَّهُ لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من غير زيادةٍ ولا نُقصان وسألتُ الله أن يجعلني فيه وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وأنْ يخصَّني في جميع ما يَرقُمُه بناني وينطق به لِسَاني وينطوي عليه جًناني بالإلقاء السُّبوحيّ والنفث الرُّوحيّ في الروع النفسيّ بالتأييد الاعتصاميّ، حتّى أكونَ مترجمًا لا متحكِّمًا. ليتحقّق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب، أنّه من مقام التقديس المنزّه عن الأغراضِ النفسيّة، التي يدخلها التلبيس. وأرجو أن يكون الحقُّ تعالى لمّا سمع دعائي قد أجاب ندائي، فما أُلقي إلا ما يُلقى إليَّ، ولا أُنزل في هذا المسطور إلّا ما ينزل به عليَّ. ولست بنبيّ ولا رسول، ولكنّي وارثٌ ولآخرتي حارثٌ»().
ربّما أثارت هذه المبشّرة جدلًا واسعًا لدى فريق من علماء المسلمين معروف بموقفه المعارض للتصوّف، فراحوا يبحثون في كتاب الفصوص عن أفكار وكلمات غرضها الهدم لا الفهم، وأدانوا من خلالها الشيخ الأكبر(). معلّقين على مسألة الوحي والإلهام. لكنّ ما دوّنه الشيخ في هذا الكتاب وصفه آخرون بالإلهام العلميّ الذي لا يُقارب أعتاب الوحي النبويّ، لأنّ الوحي النبويّ هو وحي تشريعيّ، أمّا إلهام الأولياء والعارفين ليس إلّا فتوحُ فهمٍ في الوحي النبويّ، وقراءة وعي وحضور للشريعة النبويّة().
لم يكن ابن العربيّ وحده المؤمن بهذا “الإلهام” والمتحدّث عنه، بل كان متابعًا فيه لمن سبقه من الصوفيّة الأوائل، ولعلّ فيما ذكره الجنيدُ عن الإلهام والرُّؤًى تعضيد لذلك، ففي رسالته لبعض إخوانه يقول: “صفَا لكَ من الماجدِ الجوادِ جميلَ ما أولاك. وأخْلَصكَ بما خصَّكَ به وحَبَاك. وكشَفَ لكَ عن حقيقةِ ما بهِ بَدَاك. وآثَرَكَ بما اسْتأْثَرَ به عمَّن سواك. وقرَّبَكَ في الزُّلفَى لديه وأدناك. وبَسَطَكَ بالتأنيسِ في محلِّ قُرْبِهِ وناجَاك. وانْتَجَبَكَ بجميلِ أمره وصَافَاك. وأيَّدَكَ في عظيمِ تلكَ المواطن، وقريبِ تلكَ الأماكن، بالقوَّةِ والتمكين والهدوءِ والدَّعةِ والتسكين، لئلّا تقوَى عليكَ البداءةُ الواردة، والأنباءُ الغريبةُ القاصدة. فيلْزمَكَ لقوَّةِ ذلكَ عليكَ في ابتداءِ خلوصه، إبهاتَ الذَّهْلِ لما لا يَجِدُ لما لا يُقالُ منه محتمل. فكيفَ يُحتَملُ ذلك، أو تقفُ العقولُ بضَبْطِ ما هنالك، إنْ لم يُمسِكْها بالكلايةِ، ويكنفْ سرائرَها بالرِّعاية؟! فأيْنَ أنتَ، وقد أقبلَ بكَ كلِّكَ عليه، وأقبلَ بما يُريدُهُ منكَ لديْه. وقد بَسَطَ لكَ في اسْتِماعِ الخطاب، وبَسَطَكَ إلى ردِّ الجواب. فأنتَ حينئذٍ يُقالُ لكَ وأنتَ قائلٌ “().
هكذا يصّف الجُنيدُ ما يقع للوليّ من مناجاة إلهيّة في منازل القرب، ممّا يذهل القلوب ويمزّق العقول لولا السكينة التي يجعلها الله في قلب الوليّ فتمسكه. ومن هنا لم يجد الجنيد حرجًا في سرد مناماته، فيذكر مرّة أنّه “رأى في المنام كأنّ ملكَيْن نزلا من السماء، فقال أحدهما لي: ما الصدْق؟ فقلت: الوفاء بالعهد. فقال الآخر: صَدَق. ثمّ صعدا”. وكما رأى الملائكة رأى إبليس ودار بينهما حوارٌ على النحو الآتي: ” رأيتُ ابليسَ في النوم، فقلتُ له: هل تظفر من أصحابنا بشيء أو تنال منهم شيئًا؟ فقال: إنّه يعسر علىَّ شأنهم، ويعظم علىَّ أن أصيب منهم شيئًا، إلّا في وقتين. قلتُ: أيّ وقت؟ قالَ: وقت السماع وعند النظر، فإنّي أسترقي منهم فيه وأدخل عليهم به. قال الجُنيدُ: فحكيت رؤياي لبعض المشايخ، فقال: لو رأيتَه قلتُ له: يا أحمق. مَنْ سمع منه [أي من الله عزّ وجل] إذا سمع، ونظر إليه إذا نظر، أتربح أنت عليه شيئًا، أو تظفر بشيء منه؟ فقلت: صدقتَ”().
صدّق الجُنيدُ رؤياه في المنام لمَلَكَيْن وأضافت الرؤيا لمعرفته جديدًا غير مفكّر فيه سابقًا، وهي إجابته للملكين بأنّ الصدق لا يدلّ فحسب على صدق اللسان، بل يتجاوزه إلى الوفاء بالعهود.
ونجد المعالم نفسها لصورة الوليّ، في نصوص الحكيم الترمذيّ المعاصر للجُنيد، وإن لم يلتقيا. فالوليّ هو من وَلِيَ اللهُ حديثَه، فله الحديثُ، كما للأنبياء الوحيُ. وينفصل ذلك الحديث من الله عزّ وجلّ، على لسان الحقّ، معه السكينة، فتتلقّاه السكينة التي في قلب المحدَّث، فيقبله ويسكن إليه. وإنّما يقع ذلك الحديث من محبّة الله تعالى لهذا العبد. والمحدَّثون ليسوا على منزلٍ واحدٍ، بل يَفْضُلُ بعضُهم بعضًا().
جزءٌ من مقدّمة تحقيق الدكتور خالد محمّد عبده
طُبع كتاب المبشّرات في (بيروت: كنز ناشرون، 2023).