بسام بن علي الكلباني/ محامي عُماني
في خضم دخول السلطنة في اتفاقيات دولية عديدة كاتفاقية سيداو واتفاقية حقوق الطفل والتي جاءت بعد التحقّق من شرعيّتها وتوافقها مع التشريع العماني ومدى حاجة المجتمع لمثل هذه المواثيق الدولية كصدور قانون الطفل العماني بالمرسوم السلطاني (22/2014) على وجه الخصوص؛ كان لابدَّ من الالتفات إلى قضيّة جوهريّة تمثّل الخطر الأكبر في تطبيق القانون على الصعيد المحلي، وهنا تجدرُ الإشارة إلى أن التحفّظ حول إسدال الستار عن القانون وجعله حيّز الفاعليّة والتطبيق هو محور الحديث في هذه المقالة، إذ أنّه بالحديث عن متون القانون ومواده الـ(79)، كان لابد من تدخّل المؤسسة التعليمية والإعلامية لإذكاء الوعي القانوني حول الجرائم التي صنّفها المشرع العماني في مرتبة “الجناية” واجبة التنفيذ، مع العلم التام بأن القضاء في كافة الدول يعنى بتطبيق القانون دون شرحه للعامّة من خلال التثقيف بهدف رفع مستوى الوعي القانوني.
المجتمع العماني حاله كحال بقية المجتمعات العربيّة، له وعليه من تقليد وموروث وسلوك اجتماعي وفقًا لسياقاته الثقافية المتجذّرة والتي تباينت بالقبول والرفض في بعض المناطق عن الأخرى، وعليه كان لزامًا على الجهات آنفة الذكر وقبل أن يكون القانون محل التنفيذ والعمل به أن تقوم بواجبها التوعوي، إذ أن النصوص القانونيّة المجرمة وفقًا لقانون الطفل لطالما كان الكثير منها دارجًا، بالرغم من عدم قبوله واستلطافه اجتماعيًّا، إلّا أنه لا يستساغ منطقًا وعقلًا أن يتحوّل الفعل إلى أقصى درجة من درجات التجريم: “جناية” دون المرور بها على سلّم توافقي يتناسب مع الوعي العام.
تنص المادة 56، فقرة (ب) من قانون الطفل: يحظر على أي شخص اغتصاب طفل أو هتك عرضه أو التحرش به جنسيًا. ودلالة هذه المادة محل الذكر وباسقاطها إلى حيّز الشرح البسيط أن قيام ذكر بنزع ملابس قاصر فهو يواجه أمام سلطة الاتهام بجناية التحرّش الجنسي بطفل، وبالرغم من أنَّ القيد والوصف لتلك الدعوى صحيحة قانونًا، إلّا أنّها غير صحيحة وفقًا للسياق الاجتماعي والعرفي للأسباب التالية:
1) إن مفاهيم التحرش الجنسي في العالم الغربي تصل إلى التحرّش اللفظي والإماءة وليس الجسدي وحسب، أي أن المشرع في النظام الأنجلوسكسوني قد وسّع من نطاق التجريم ولم يجعلها على المستوى المادي، وهو ما يتناسب مع المجتمعات ذاتها التي جرّمت هذا السلوك قبل صدور القانون كالقانون الأمريكي مثلًا والذي صدرت قبله كتب علماء النفس والاجتماع بتجريم هذ السلوك، بالتالي أصبحت المجتمعات بغير حاجة إلى خطوة استباقية يليها اصدار القانون، فالشعوب هي المشرع الأساسي لكافة القوانين، وهو ما يتّسِقُ ونظرية روسو في عقده الاجتماعي، وهذا ما يتنافى مع أغلب الدول العربيّة التي تستهجن الفعل دون إيجاد الغاية من تبريره أو معاقبته بعقوبة جنائية تصل في أحسن الأحوال إلى السجن خمسة أعوام.
2) إن نص المادة (5) من قانون الجزاء القاطع بعدم توفّر العذر بالجهل بالقانون ليس مطيّة لقيام الجرم، ولكن كان على المشرع قياس مستوى الوعي العام قبل تطبيق المادة (5) في كافة الجرائم، إذ أنّه من الطبيعي أن يعرف العامة أن السرقة جريمة يعاقب عليها القانون، لكنّه ليس بالضرورة أن يعرف أن قيامه بتغيير قفل الباب للمستأجر أو قطع الكهرباء عنه جريمة جزائية سيما وأن تلك الأفعال قد تكون ردّة فعل متوقّعة لاستيفاء الحق بالذات، فالسرقة قد بغضتها كافة الموروثات الثقافيّة ولولاها لما استمرّت الحضارة الإنسانية، وهو فعل مشين متّفق عليه قبل قانون أورنمو الذي سبق صدور شريعة حمورابي بحوالي ثلاثة قرون، وقبل أولى الحضارات المكتوبة. يقودنا هذا إلى سؤال ذو لزومة منطقية: أين كان المشرع حينما أنشأت القاعدة الفقهية الشهيرة: الجزاء من جنس العمل؟ وهو ما يتّفق مع ما أورده توما الأكويني في تعاليمه بأنّه وجب أن تكون الاستجابة متناسبةً مع الشر؛ إذ أنَّ المزيد من العنف أكثر مما هو ضروري للغاية سيكون غير عادلٍ، فأين تصبُّ غاية المشرّع في النصوص الجامدة التي لا تتوافق والوعي العام وفلسفة التأهيل التي يفترض أن تكون الهدف الرئيس للسلطات التشريعية والقضائية التي تسعى ليس لفرض العدالة وحسب، بل وصبغ تلك العدالة بالرحمة.
جدير بالذكر أن المادة 19 من اتفاقية حقوق الطفل في الفقرة (أ) تنص بالتالي: “تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف، أو الضرر، أو الإساءة البدنية، أو العقلية والإهمال، أو المعاملة المنطوية على إهمال، وإساءة المعاملة أو الاستغلال، بما في ذلك الإساءة الجنسية” وهو ما يجعل المشرّع يتأكد وقبل نفاذ القانون بأن تلك التدابير الإدارية والاجتماعية والتعليمية قد تمت بكافة المؤسسات آنفة الذكر
3) وجب تغليب الغاية الأساسية في النصوص القانونية قبل تطبيقها، وإعمال الغاية أو المقصد التشريعي هو جوهر ولبّ الفهم للنص، إذ أن تجاوز النص بمفهومه التداولي وتغليب المفهوم الدلالي هو ما جعل القضاء أمام أزمة كبيرة في تطبيق القانون، إذ أن المفهوم الأوّل يصف واقعة نزع ملابس قاصر، دون اغتصابه وإنّما لمسه باليد، وفي المفهوم الدلالي هو جناية التحرش الجنسي بطفل، وعليه فإنّ المشرّع قدّم النص على الغاية منه، ومفهومه الدلالي الجامد على المفهوم التداولي المجتمعي الذي لا يتجاوز الاستنكار وحسب، وعليه فإن المفهوم الدلالي لنص المادة جعل الفعل مستحق لوصف جناية دون أن يقدّم شرحًا فقهيًّا أو على سبيل الحصر حالات التحرّش الجنسي الواجبة إحالتها وفقًا للوصف ذاته، وعليه فإن إزالة لبس القاصر له ذات النص الذي يعالجه أمام حالة التحرش المادي من خلال لمس مواطن العفّة سواءً باليد أو بالعضو الذكري وهو في كافة الأحوال وفي كلا الحالتين لا يرقى أن يكون جناية لعدم تناسب الجزاء وجنس العمل، ولغياب الوعي القانوني لدى غالبيّة المتهمين في تلك القضايا وهم في عقدهم الثاني.
يمكن القول أن تلك الأسباب الثلاث التي غفل عنها المشرع العماني على وجه خاص، هي المسبّب الأهم لجعل القضاء العماني يواجه تلك الأحكام بعد حين بعين رحيمة، انطلاقًا – ربما – من تلك الأسباب آنفة الذكر التي يتشارك معي فيها القضاء العماني أو لأسباب أخرى، ولا يسعني في هذه المقالة سوى أن استحضر إعجابي وتقديري الشديدين تجاه فضيلة القاضي الدكتور محمّد السعدي رئيس محكمة استئناف مسقط الذي مكّننا دائمًا ليس من تقديم الدفوع القانونية وحسب، وإنّما من مخاطبة وجدان المحكمة والتعويل على رحمتها ورأفتها وإدراكها التام بأن المعيار الأول للقضاء الجزائي هو التأهيل، لاسيما وأن المشرّع قد عرّف السجن بأنّه مؤسسة عقابيّة لا إصلاحيّة، وعليه فإن أحكام فضيلة القاضي لم تكن تخلو من جملة: ولمّا رأت المحكمة أن المتهم يخلو سجلّهُ الاجرامي من…إلخ، وأن المتهم في مقتبل العمر…إلخ. إذ أن جوهر القضاء هو الرحمة كما قالها السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه-، وكما أسلف السابقون من الفلاسفة والمفكرين لعلَّ أبرز ما يكمن تذكّرهم هو ما قاله مونتسكيو وجون لوك وفولتير وروسو من أن الجريمة هي “فعل شاذ”، وهو ما يتوافق مع أطروحة سجموند فرويد وواطسون في تحليل السلوك الإنساني، إذ أنَّ المحرّك الأوّل والباعث نحو الجريمة هي العوامل الاجتماعية والنفسية والثقافية التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند التعامل ليس مع القضايا القانونية وحسب، بل لفهم السلوك الإنساني دون الاكتفاء بالظاهر لا المضمون، فالفضيلة الأخلاقية تكمن في تحاشي التطرّف في السلوك وإيجاد الحل الوسط كما يقول أرسطو في الأورجانون، وهو ما يؤمن به الفارابي الذي يعتقد بوجوب تحرير التطبيق من قيود النظريّة، وذلك ليس توسيعًا في فهم النص أو توسيع نطاق تجريمه، بل فهم الغاية منه وتعطيله متى ما توفّرت الظروف.
لطالما تردّدت في كتابة هذه المقالة طويلًا، ربما لسبب وجيه هو كون الذي أكتب عنه، أقف أمامه بشكل شبه دائم يكون فيه الحال: قاضٍ ومحام، ولا يصحُّ أدبيًّا الحديث دون أن يترك أحدنا مكانه، ولكنّني تجاوزت تلك المعضلة الأدبيّة حتّى يدرك القارئ المقال قبل المقام، فكل ما يمكن أن يضعه العقل البشري من أفكار أنطولوجية ليس له غاية نهائية إلا توجيه الإنسان في حياته من أجل هدف سامي لهذه الحياة، وهو السعادة وسلامة الإنسان العقلية والأخلاقية كما يشير اسبينوزا في كتابه الأخلاق.