بسام بن علي الكلباني
لا شيء كما كان، كما قال أحدهم منذ زمن: لا أنتِ أنتِ ولا الهوى نفس الهوى. قبل ثلاثة آلاف ليلةٍ، بالشارع ذاته، رحل الجميع ولم يبق سوى أطيافهم، وكراسيٍ مهترئة أضناها شوق وحنين من جلِسوا عليها، وأشقاها صيف بيروت وصخب تموزَ ولياليهِ المتوتّرة وسماءها المليئة بشظايا العدو. انتهت كل الملاحم الليلية، أهترئت كل الأجساد الممشوقة، فبعضها عاد إلى سكون البشري الأوّل، وأرتضى موتًا بطيئًا في حضنٍ لا يشبهُ تلك الأحضان التي ارتمى فيها أوّل الصبابة، ولا الشفاة التي أرتوى منها، لكنه عاد بالرغم من كل قبحٍ؛ إلى سكون البشري الأوّل وأدرك أنَّه مهما حلّق طائر الوروار فلابدَّ من محطّةٍ أخيرة، لا اختيارا منه؛ وإنّما لوهنٍ أصاب جناحيه. أمّا الآخرون فقد قرّروا موتًا سريعًا حتّى تخفُّ وطأة الألم على أرواحهم المعذّبة، معلّقون ما بين رحيل أو اغتراب أو فناء. يتثاءب السؤال الموشك على التداعي: ما الذي يقتل الحبَّ فينا فيصرَعَهُ في نزالٍ واحدٍ دون حربَة؟
كانت الشوارع هي الأخرى توشِكُ على الصراخ، لم تعد تلك الأحذية العالية تخطو عليه. امتلئ وجهه بأحذية متّسخة، وأجساد بالية، ودموع المشرّدين والمسحوقين من الأطفال والنساء، وبقايا كبرياء رجل أشعث اختار أن يحتمي تحت آلة صرافة سرقت كل الأرغفة من فم الجوعى والأغنياء والمغتربين والحالمين على حدٍّ سواء. كان كل شيء ينافس الآخر في الصراخ والتعبير عن ألمِهِ: الحانات والمكتبات والأرصفة والمقاهي والأركيلة. الجميع يعبّر بصوت واحد: ما الذي يقتل الحبَّ دون حربَة؟
لم تكن المرافئ تتّسع حتّى لقارب واحد، كل الأبواب مؤصدة، والوجوه شاحبة، والألوان باهتة، والألسنة مغتربة، والأفواه صامتة، والعطور باردة، كل الخطوات تفتّش عمّا جرى هنا في لحظة مباغتة، غفلة غير محتسبة، خطوة غير مدروسة، خيانة غير متوقّعة، من قام باغتيال الحب في الحمرا الغابرة؟
لا شيء كما كان، لم يعد صوت سلوى القطريب ممكِنًا على الآذان، لا صورة لبركات وقمريه، لا هدهدًا يشدو بكائيات الصافي أو سنونوات فيروز وشمس الدين. كازينو لبنان العظيم خلى من كل قمّاريه ومرابيه وموزّعيه. حتّى ذلك الكرسي الذي أعتاد أن يكون لمارسيل خليفة وعودِهِ، اختفى، أمسى مكانه محاصرًا بالظلمة، لن يعود إلّا في علبِ السّردين كما عاد موسى الصدر في بطونِ مريديه. من أذن تصفية الحبّ دون حربَة؟
كيف تموت الأشياء هكذا دون احتضار، دون معاناة طويلة مع الألم، أن تعلن الموت دون قيامة أو نذير، لا خطة مرسومة ولا بيعة. لماذا لم يخرج بروتس واحد في بيروت ليقتل كل الطغاة ثم يشيح بوجهه الحازمُ ويقول: إنّي أحبّكَ، لكنّني أحبّ بيروت أكثر، أو سبارتاكوس المنتحر والمعلّق جسده، فينزف في متاهات “جميزة” وأزقّتها فيطهّر قدس الأقداس، أو حُسينًا يلغِّمُ “الضاحية” فلا يُبقي من خونة العالم سِوى أفولِهِمْ، أو بروميثيوس دُرزيٌّ لا يبقي شجرةَ أرز واحدة في كل الجبال الخضراء ويحرقها بشعلته المتوقّدة منذ الأبديّة. فلا يُقتلُ الحبّ دون حربة؟
إن أسوء ما في الخيانات هو أنّها لا تترِكُ أثرًا قبل وقوعها، فخيانة الحب والموت أصعب من تلك التجربة التي يسبقها شتاء بارد بلا معطف تتقاسمه مع أطرافك المتناثرة، كان لابدّ للبشري أن يتهيّأ لتلك المواقف الارتجالية دون أن يبقى في دهشته الدائمة نحو الأشياء، كان عليه أن يقبل رؤية ملكتِهِ الانطوائية تُعلّقُ رقبتها بين ليلة وضحاها، وأن يقبل قيصره مرديًّا بأبشع الصور، وإن لم يكن قد تنبأ بكل تلك السقطات المدوية، كان عليه أن يقبل الفجائيّة في عينِ يسوع حينما قال: أبقبلةٍ تسلّم ابن الإنسان؟ دون أي رغبة منه ولو ضئيلة في إبداء الدهشة في شيء، فلم يعد شيئًا يثير الفضول أو حتّى الاستغراب، فلا شيء يخرج عن أطر العودَ الأبدي.
لم يعد شيئًا يثير الاهتمام هُنا، تلك هي أولى مثالب الولادة، وأبلغ صور الحريّة هو أن تلِدُكَ أمّك ميّتًا، عدا ذلك، فمهما عظم شأنه لا يعدو كحبلٍ على رقبة زوربا كازانتزاكيس، وعلى القرزبيل أن يغادر مرافئ الموت البطيء فورًا، فلا أحد يحتمل موتًا بطيئًا، ولم يكن الحكماء قاصرين في فهم هذا، لكنهم وحدهم السياسيون من أوقفوا موتًا رحيمًا من أن يشرعن، فيهربَ البشري من موتاتِهِ اليومية إلى موت رحيم أبدي دونما عناء الحياة والفوضى الخلاقة التي أحدثها البانثيون منذ زمن مضى. منذ الذي أستبدل الحربَة بالعذابات الدائمة؟
لجسدِ بيروت ألف موضعٍ مثخنٍ بجراحاته: طعنة خنجر، “لطشة” سيف، “غمرة” رمحٍ و”غنجة” سهام عديدة، فحبشيُّها الشجاع لم يأتِ بحربتهِ القاتلة بعد، ومجوسها لم يسمَّ خنجَرَهُ، لم يكن أحدهم يملك الشجاعة الكافية لإسقاطها من أوّل جولةٍ، لا تلذُّذًا؛ بل لا مبالاةٍ في استطالة الجراحات العفِنَةِ وحسب، كان عليها أن تجرّب كافّة المآسي، أن تترُكَ فصلًا للحضارة بأكملهِ، أكثرُ خُزيًا من سوفوكليس اللعين الذي لم يرغب في قتلِ أوديبَ قتلًا رحيمًا. من أذن لشارع الحمرا الموتَ دون حربَة تخلّصه كل آلامه وشقاءه.