حمد الصبحي
لم أجد غير هذا العنوان المنزوع من كبد أغنيته “غريب”، تلك الأغنية التي تقاوم الألم، أغنية عاشت معنا كأغنياته الأخرى التي لا تخلو أيضا من هذه الجراح.
نحب عبدالكريم عبدالقادر لحزنه الشفيف، نحبه لأنه يشبهنا، يشبه جرحنا، صوته شجيٍ يسيّل في دمنا، ورغم هذا الحزن فهو ينبوع فرحنا، يجرنا إلى عمق القلب، نتذكر حبيباتنا معه، نسمع صوته ونتذكر كل شيء قدم مرّ، لم يترك أي ذكرى، أو جرح إلا وقدمه لنا، أنه حبيب الأيام وسهرها ووجعها وفرحها وليلها ونهارها، وإن كنا ننام على صوته، فكان بمثابة حبة اسبرين، تخمد ألم القلب.
عبدالكريم عبدالقادر، أو كما يحلو لجيل التسعينيات تسميته ب” أبو خالد” وشخصيا لا أحب هذه التسمية، فهو عبد كريم، كريم لقلوبنا ولقلوب العذارى، طالما أنه جُرح في أيامه الأولى، فصار عبدا للقلب، لقلبه، لأقرب الناس إليه، يروى عنه بأنه ترك حفلاته في البحرين من أجل زوجته الحامل، فضل البقاء بجنبها عن المسرح، وقال لإعلام بلده؛ “لا أصلح في مثل هذه الاحتفالات يمكن افشلكم”، وهو هكذا لا يصلح إلا للحب، بسيط كأغنياته التي لا تخرج عن الجرح.
في مقالة سابقة تحدثت عنه، عن جرحه، عن من أطلق عليه الصوت الجريح، إذ قيل بأن هذا اللقب لصق به في منتصف الثمانينيات، وتحديدا بعد أغنيته “أجرّ الصوت”، وأي صوت هذا الذي يجره عبدالكريم عبدالقادر، أنه يجرّ الأرض بأكملها، كل أغنياته اجترار للحزن الجميل الذي روضّه.
تخيّل نفسك وأنت تنزل مطار الكويت، هذه البلاد الصغيرة لكنها كبيرة في خلف هذا المطار، من هنا مرّت أصوات وأصوات، كأم كلثوم، فيروز، عبدالحليم حافظ، الموجى، بليغ حمدي وغيرها من الأسماء الكبيرة، تخيّل بأنك تنزل هذا المطار من دون ما تسمع عبدالكريم عبدالقادر، فهو أيقونة المكان، ثقله، زهرته، ليله، آه من ليله وهو يتحدث عن أحوال العاشقين، تخيّل إنك في الكويت، ستجد هذا الصوت في كل مكان، في الشارع، في المطعم، في كل البيوت، وفي الحديقة ستسمع أغنيته “انتظرتك”، عبدالكريم عبدالقادر مخزن تفاصيل حياتنا، يقول عنه الشاعر فائق عبدالجليل رفيق دربه :”عندما أكتب أغنية ل” أبو خالد احتاج إلى عدة غوص، أبحث عن كلمة تعادل لؤلؤة نادرة، وأبحث عن بيت شعر صدره يقاوم الألم وعجزه يبعث الأمل من جديد، يوقظ في الناس الإحساس ويعمّق فيهم وبينهم الحب”.
لا أدري من الذي أطلق عليه “الصوت الجريح ” لكن أظن بأن الكاتب المصري أنيس منصور عندما زار الكويت، سمع صوت عبدالكريم عبدالقادر، سمع هذا الصوت في السيارة التي ستقله إلى الفندق، فقال حينها، “هذا صوته جريح”، ومن يومها عرف بالصوت الجريح، أنه سليل الجرح والأسى والشجن منذ أن عرفناه في وقت مبكر، والصحراء ليس إلا مرثية والبحر أكثر بكاءً ورثاء.
جاء عبدالكريم عبدالقادر من الجرح، وكأن الأيام ذبحت وريد قلبه، وفي كل مرة نسمع جرحه وهو يكبر، وفي عناوين ألبوماته، نجد هذا الجرح يتمدد: “زوار، مركب، تكون ظالم، عاشق، غريب، أعترفلك، تأخرتِ، وين مرساك، باختصار، وداعية، أحوال العاشقين، الله معاي، الجرح الخطير، محال، إلى (م)، الصوت الجريح، يا داعج العين، أنا ويلي، هذا أنا، أحمدك يا رب، أنا من الأيام، أسمع صدى صوتك، ما طاعني، ظماي إنت، بيني وبينك، شفتك، من بعد غربة، ساعة الفرحة، آن الأوان، الحبيبة، راجع، أغني لك، شخبارك، ودعتها، وينك، من بين الناس، رسالة من امرأة، بسيطة، أشتاق لك، ماهمها شيء، انتظرتك، نامت عيوني، خذني الوله، مرايا العيون، أكذب عليك، مالك شبيه”، وغيرها من الأغاني سليلة هذا الجرح الكبير، حتى ملحنيه وقوعوا في فخاخه وفي شِباكه، فمثلا عبدالرب إدريس وهو يلحن تأثر بدم صوته، أنه يعلو على المقام وبحره، لذلك لا يشبه أحد.
جرح عبدالكريم عبدالقادر يطول ويطول، وفي كل مرة تجده مختلفا في طوله، يتعمق فينا، يأسرنا، يدفنا في الليل الطويل، لا ننسى أيام الثمانينيات كيف كنا نتهافت على شراء أشرطته، نستمع إليه كعشاق خدعتهم الأيام، نوصلها إلى حبيباتنا كعطر لليل، ويطول هذا العشق وتطول العلاقة مع عبدالكريم عبدالقادر دون أن تنقطع حتى آخر يوم كان ليل الأمس، لماذا يغيب عنا في الليل هذا سؤال آخر، هل أراد أن يقول لنا بأن العشاق يرحلون ليلا، ألم نقل بأن عبدالكريم لم يترك موضوعا إلا وغناه، حتى في ليلته الأخيرة يذكرنا بالوداعية وهو يقول “وداعية يا آخر ليلة تجمعنا /وداعية يا أعز الناس يودعنا”، كأنه كان يتنبأ بهذا الرحيل الذي سيعذبنا، حتى تخمدت فكرة الرحيل من أوانها، صُدمت بخبر رحيله بعد أن نشرت أغنيته وطمنت قلبي على صحته في أغنية “محال” ليصدمني الصديق سليمان المعمري بقوله “مات يا حمد”، لأقرأ رحيله يطير على رؤوسنا، من كل مكان، سيّل من البكاء على مغن كبر في القلب، لم أكن أصدق، بأن هذا التاريخ من العشق يرحل، وإذا رحل من سيتبقى لنا بعد رحيله ورحيل من سبقوه من أمثال طلال مداح وأبوبكر سالم، وغيرهم من الذين كانوا قرب قلوبنا، شجرات من العشق ترحل عنا وعن قلوبنا، كيف سننجوا من الكارثة، المسماه بالحياة.
عشنا مع عبدالكريم عبدالقادر زمنا، قبل أن يتدفق البترول على الكويت ومحيطه، وتحدث اللعنة، وتجرح أيامنا الحلوة الدافئة، كنا نحترق بالسؤال مع ما يفيض من نهره، ونسأل من أين أتى كل هذا الحزن، حتى يكون عبدالكريم صوت الكويت الجريح؟.
عبدالكريم عبدالقادر، هذا المغني، تجده وكأنه يغني لنفسه، لحبيبته، عاش ورافق العشاق، ثوّر قلوب العذارى، لم يغن على المسرح، فهو العاشق الخجول، تجد هذا على ملامحه، قليل الكلام، كثير الصمت.
فهو “غريب وشايل جروحه”.