عبدالله بن سعيد الجرداني
العلاقة بين الكاسر والرحماني هي علاقة وطيدة، ودائما نراهما سويا لأن كلا منهما يكمل دور الآخر، ولا يستقيم إيقاع فن الرزحة دون وجود أحدهما، حيث يتولّى الكاسر الرنّتين الحادتين والرحماني الرنّة القوية.
ولأنهما متلازمان دائما، فقد كانا يعشقان الكاسر والرحماني، تجدهما في استقبال المهنئين أيام عيد الفطر وعيد الأضحى وهما يحملان على أكتافهما هذين الطبلين، ودويّ الإيقاع يعلن فرحة العيد في “صياء الحدرية”، ليستيقظ الأطفال عن بكرة أبيهم ويشرعون في إرتداء اللباس الجديد ليلحقوا آبائهم إلى مصلى العيد، يتهافتون بهجة وطربا لئلا تفوتهم “العيديّة والعيّود”.
ولأنهما صديقان جمعتهما الدنيا معا، متلازمان كالسبّابة والوسطى، متشابهان في إيقاع الحياة، يتقاسمان حلوها ومرّها وزوابعها، فقد شاء القدر أن يفترقا سويا، وترفع روحهما الطاهرة إلى بارئهما في شهر شعبان الذي ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، رحلا وتركا الذكريات الحميمة تتوالى على خاطر ذويهم، يشكون بثّهم وحزنهم إلى الله، ويتضرعون إليه بأن ينزلهما منزلا مباركا.
بالأمس رحل “الكاسر” وارتخت حباله (العم سعيد بن محمد الجرداني، جد أولادي)، ولم تمض سوا بضعة أيام وأبى “الرحماني” (عبدالله بن حمد الجرداني، الحاج) إلّا أن يلحق بصاحبه، سبحان الله فليس من البديهي أن يكمل الرحماني مشواره بدون الكاسر، فقد ألّف الله بين قلبيهما وجعلهما خليلين في الدنيا ونسأله تعالى أن يكونا خليلين في الآخرة، ” لو أَنفقتَ ما في الأرضِ جميعًا ما ألّفت بين قلوبهم ولكنَّ اللَّهَ ألّف بينهم ” صدق الله العظيم.
دون سابق إنذار تنفك حبال الكاسر فجأة ويسرع به إلى المستشفى، بعد أن رأوه يرتجف وترتعش فرائصه ويلتقط أنفاسه بعناء، لم يدخل أية مستشفى طوال سنين عمره التي قضاها وهو يكتم أنّاته وأوجاعه مكافحا لتوفير لقمة العيش لأبنائه وبناته، كان نموذجا للأب الحنون الذي يحتضن أبنائه، ودرع حماية لهم يلجأون إليه في السرّاء والضرّاء، أياما معدودات قضاها على فراش المرض الذي لم يمهله كثيرا، حينها أبناؤه ومحبوه يذرعون غرفة المرضى في أوقات الزيارة جيئة وذهابا ولسانهم لا ينفك عن الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه، لم يكحّل النوم أجفانهم، يتأملون مؤشرات التنفس ونبضات القلب في الجهاز الإلكتروني الذي إنطفأ تماما في يومه الأخير، لترجع نفسه المطمئنة إلى ربها راضية مرضيّة.
الرحماني كذلك لحق بصاحبه إلى نفس المستشفى، وتسنح له فرصة زيارته على كرسي متحرك رغم مرضه، ليلقي النظرة الأخيرة عليه ويودع بعضهما البعض بالنظرات الحزينة والتلويح بالأيادي، فسبحان من دبّر الأمر، ليعود الرحماني إلى سرير المرض، وبعد أربعة أيام من وفاة صاحبه تأفل شمسه، وتظلم سماء “صياء الحدرية” في عز النهار ويخيّم الحزن في طرقاتها، ومهما أظلمت ستظل مشرقة بأضواء أبنائك النجوم الذين سيكملون الحكاية من بعدك، ومهما اشتدت حرارة الصيف فهم أشجار وارفة الظلال كريمة المنبت.
رحل الخليلان عنّا ولكنهما لم يرحلا منّا، فحبهما في قلوبنا، وما أجملها من صحبة في الحياة وفي الممات، رحلا سويّا بعدما كانا سويّا، أخوان لم تلدهما أم واحدة، تشابها في صلاح السيرة وصفاء السريرة فكانت خير مسيرة، اللهم أرحمهما فلم يعد بيننا وبينهما إلا الدعاء، اللهم اغفر لهما وانظر إليهما بعين لطفك وكرمك يا أرحم الراحمين.
