محمود بن جمعة الرحبي يكتب
تضاعف عدد متابعي مسلسل Wednesday والذي عرضته منصة “نيتفلكس” أواخر العام المنصرم، وذلك خلال أيام قليلة، والسبب ليس تاريخ القصة ولا شخصية البطل ، بل لأن أحد ممنتجي الصوت بـ”تيك توك” عدّل وسرّع إيقاع أغنية ليدي غاغا والتي كانت تتناسب كلماتها مع رقصات “الأربعاء” Wednesday Danceالغريبة!! لدرجة بلغت أن “نيتفلكس” أدرجت “الريمكس” لإعلانها الدعائي للموسم الثاني.
لو نرى تأثير “التيك توك” قد أجدني غير مبالغ بأنه يحيي أغنية غبر عليها الزمن ويرفع سوق أناس رأس مالهم خفة عقلهم وينهض ميتا منسيا من رقاده ويضع هالات مقدسة على متفلسف لا يمتلك شهادة إعدادية. ولقد أحدث هذا التطبيق ثورة لوسائل التواصل الاجتماعي الأخرى بل فرض سطوته عليها، فمن خلال تلك المقاطع القصيرة ستجرك نحو دوامة لا تنتهي من المقاطع المشابهة، لها والفضل للوغاريتمات والتريندات وتفاعل ملايين الناس معها، إلى أن تجدها تصل بين أيدي من لم يحمّل التطبيق حيث أنه سحر أغلب المستخدمين فأصبحوا يقضون دقائق متواصلة وربما ساعات ناسين أنفسهم منجرين وراء كل ما يبعدهم عن الواقع للتسلية في أغلب الأحيان.
ومؤخرا شعرت تطبيقات انستجرام ويوتيوب وسناب شات بالغيرة من تيك توك عندما سرقت الأضواء منهم، إذ أطلق انستجرام “الريلز” وسناب شات أضاف منصة أضواء ويوتيوب الذي عهدناه بالمقاطع الطويلة لحق بالركب بدعم المقاطع القصيرة.
قد يفهم القارئ أني أعيب البرنامج أو ألوم مستخدميه مع أني لا أنفي منافعه ومزاياه لمن نشد ذلك بنفسه، لكني أود أن ألفت النظر إلى ظاهرة لمستُها في العالم الرقمي والمعلوماتي تجلّت بشكل واضح بعد توسع تطبيق التيك توك وقد كانت موجودة سابقا بشكل غير ملفت للانتباه، وهو ما أُطلِقُ عليه بـ”التكتكة” أو بالعامية “عطيني الزبدة”.
“التكتكة” تدور حول جذب المتابعين لمحتوى معين مرئي أو غير مرئي وسط آلاف الوسائط، فلا تقتصر على تيك توك فحسب بل تقتسم حصصها بشكل متفاوت مع باقي وسائل التواصل الاجتماعي انتهاء بتويتر، وإن كان التيك توك على رأس هذه التطبيقات، يتصفح المتكتك وسائط كثيرة وخيارات متباينة وشاسعة وقد لا يكمل متابعة المقطع أو قراءة الثريد فيتجاوزه إلى وسائط أخرى أكثر جاذبية تنتظره فيعامل هذه الوسائط مثل الوجبات السريعة ذات السعرات الحرارية العالية.
على النقيض، المحاضرات الطويلة والوثائقيات والكتب والقراءة والتي تتسم بأقل جاذبية من غيرها وتحتاج لمقدار أكبر من التركيز لا تستقبل المتكتكين بصدر رحب، فالقراءة على سبيل المثال أهم مغزى لها البحث والتفكير مع الربط والتمحيص وهذا كله يعيق ما يبحث عنه المتكتك من سلاسة وسرعة في العرض ولذا هم ينفرون منها لضيق وقتهم الثمين ونفاد صبرهم الضئيل فالبعض يستنجد بجوجل وتيك توك، وببعض أدعياء العلم والفكر- ممن استعانوا بجهل بعض الناس لترويج بضاعتهم المزجاة- ليخلصه من عذاب البحث فيصدق كل ما كان معلبا له ويكتفي بما رآه أو سمع به أو قرأ خلاصة عنه دون أن يتعنى ولو بأقل القليل لتفنيد ما يستهلكه.
هنا يأتي دور صانع المحتوى المطلع والمثقف أو حتى المتخصصين من أولي العلم والفكر، فلا يحصر نفسه تحت هوامش منصات أخرى تُعنى بالمقاطع الطويلة فحسب ولا يضير عليه خوض تجربة التيك توك التي تتيح فرصة كبيرة لنشر مقاطعه بشكل واسع- وإن كانت مجتزأة- لتجذب المستخدم لسماع البودكاست أو المحاضرة أو حتى لقراءة المقال أو الكتاب.
ما أود رؤيته من مؤسساتنا التعليمية إضافة مادة مختصة بالبحث في المحتوى الرقمي للجيل الجديد، وعلى الجانب الآخر هل من الممكن أن نرى رفدا كبيرا لصناعة المحتوى النافع خصوصا ممن لديه مهارة جيدة لتلك المنصات ابتداء من ذلك المثقف المنحصر بكتاباته في الجرائد وصولا لذلك العالم بتخصصه المنزوي على نفسه والذين أراهم جميعا مقتدرين على إيصال فكرهم وعلمهم للآخرين بطريقة ميسرة وأسلوب محبب والبعد كل البعد عما ينفر منه المتكتكين وغيرهم من رصف ألف مصطلح معقد في ثانية واحدة وحشد الملل كله أوتطعيم المتكتك المعلومات بالقطّارة.
ولا أجد من المستساغ من يلقي اللوم فقط على أولئك المراهقين الذين يحجّون إلى معارض الكتاب لمن استثمر هذه التطبيقات الحديثة للوصول إليهم والتقرب من ذوقهم لأن من وهب نفسه للوسائل التقليدية أو ارتكز على طريقته الرسمية المتقعرة سيجد في المقابل كل جفاء وإعراض من قبل الأجيال القادمة، وفي النهاية إن طغى المحتوى السلبي على الإيجابي سيتفشى التفكير الضحل وتروج الشائعات والخرافات ويستهان بالعلم والعلماء وتنحدر الأخلاق إلى أسفل مستوى.