ناصر أبو عون
وصلتني أمس نسخة من كتاب “في قلب إيران.. الطواف في بلاد فارس”، للإعلامية العُمانيّة “فايزة محمد”؛ تلك الفتاة العُمانية التي وقعت في حب “بلاد فارس” من أول سِفْرَة؛ وهي التي لم ترتب المواعيد، ولم تحدّد الوجهة، ولم تعقد النيّة، ولم تشد الرحال قصدًا لقضاء إجازة سنوية للمتعة والاستجمام، وإنما تكفّلت الأقدار والمشيئة الإلهية بوضعها في قلب المشهد الإيرانيّ “الثقافيّ والاجتماعيّ”،- وهي التي تجفل من السياسة، وتنفر من أحداثها اللامنطقية –.
عزيزي القارئ تعال لنسافر معًا بصحبتها إلى الطاهرة والمقدّسة “يزد”؛ قلب بلاد فارس النابض بالحبّ؛ وأراهنك ستعود إلى طينة أصلك البشريّ؛ عندما تستند رأسك على أكتاف حيطان بيوتها الطينية، وتدور كصوفيّ دوران الأرض حول الشمس، وتحلّ في جسد الكون لتدخل فلك الكواكب الدوّارة، وتتجرد من رغباتك، وتُسَبِّح مع نبض قلبك بحمد ربك الإله الواحد الأحد، وترفع رأسك خمس مرات في اليوم والليلة، لترى بقلبك لا بعينك المآذن والقباب، وهي تصدح بكلمة التوحيد (الله أكبر)، وتردِّدُ صدى أصواتها “مصدَّات الرياح”، فتهدأ نفسّك الفوَّارة بالأفكار المتلاطمة؛ على وقع خرير المياه المنساب في قنواتها المائية.
وعندما تسافر في الزمن عبر صفحات هذا الكتاب، بمعيّة السرد القصصيّ الماتع وتتجول في حواري وأزقة وأضرحة “مشهد”؛ ستَشْتَمُ من أوراقه رائحة الإيمان المنبعثة من المزارات الدينية، وستدخلُك شمسُ اليقين الساطعة من وحدة المذاهب والطوائف فوق قِباب “العتبات المقدسة” في “قُم” فتخلع نفسك الأمّارة بالجهل على أعتاب “الحوزة العلمية”، وتغتسل من أدران الهوى والخيلاء الكاذبة، وتخشع في صحبة العلماء، وتتقلّب بين يدي مراتب الاجتهاد العليا، فتتضاءلُ – أنتَ – في عينيك؛ وكلما ركضت برجلك في رواقٍ، تغبّرت أنفاسك بأتربة الأنوار العرفانية المكدّسة بأمّهات الكتب والمتون لتكتشف ذاتك، وتولد من جديد.
هذا الكتاب رحلة عرفانية وسَفَرٌ داخل الذات الوالهة العشّاقة المتدفقة بالحنين، وليس رغبة محمومة في التوثيق؛ وإنما ولادة جديدة في قلب “أصفهان نصف العالم”، وصعود على سلالم أنغام الروح إلى “حُجرة الموسيقى في قصر علي قابو”؛ وسط مزهريات تجصِّصُ الجدران؛ ويتحوَّل معها صوتك إلى تختٍ شرقيّ يعزف سيمفونية كتبت نوتتها الطبيعة.
لقد عشت بصحبة فايزة محمد من أول سطر عندما دلفت بقدميها على “طريق الحرير”، وصعدتُ إلى المقام الرضويّ؛ في رحلة استثنائية أدخلتني إلى عوالم جديدة؛ لأكتشف الجمال في الوجوه، والآثار، والمصنوعات، والروح الفارسية العابقة بالشعر والموسيقى، وعشتُ متعة البحث عن المعرفة التي لا تضاهى. حتى إذا ما صعدتُ رفقتها إلى “سفوح جبال زاجروس” وجدتني في “شيراز” أقرأ سحنات الوجوه، وأستجلي الغموض، في مرايا السائرين على أرصفة الطرقات الملونة بالأعراق والأجناس ما بين “فرس” و”أكراد” و”أذر” و”مسيحيين” و”يهود”، إنها باختصار مجمع الشعوب والأعراق الآسيوية والخليجية.
أما في “تبريز”، وما أدراك ما “تبريز” التي إذا دخلتها يوما ما ستخلع روحك، وترتدي جسدك وتتجول في أكبر “بازار مغطى في العالم”، – مجبرا لا بطل – على خوض تجربة التسوّق وإن كانت “يدك مغلولة إلى عنقك” “ستبسطها كل البسط” على عتبات “بازار الذهب والمجوهرات”، وستأسر لُبك “مظفرية السجَّاد” الإيرانيّ المزركش بأيادٍ تنسج “الشِّعر لا الشَّعر” لوحاتٍ حيكت لتعيش آلاف السنين.
وفي الأخير الكتاب – باختصار – من العتبة الأولى يقع في إطار “أدب الرحلات”، تمزج فيه المؤلفة ما بين تقنيات عديدة من أساليب الكتابة؛ يقف على رأسها “السرد” في لغة بلاغية وشفافة، وتزاوج ما بين “الحوار الصحفي”، و”التقرير الإعلاميّ”، وتستعير الصورة الاستعارية بديلا عن الكاميرا، وتوظِّف “الصراع” الدراميّ وتصنع كتابة جديدة داخل دائرة “الحكاية”؛ ليستعيد معها القارئ أجواء “ألف ليلة وليلة”.