الكاتب: مرتضى بن حسن بن علي
إعادة الثقة والتعاون الوثيق بين دول مجلس التعاون سوف يحتاج إلى كثير من الجهود المخلصة، والتضحيات المتبادلة، والفهم المشترك لطبيعة المشاكل والتحديات التي تواجهها كل الدول منفردة ومجتمعة، ويستغرق ذلك وقتًا ليس بالقصير؛ بسبب كل الأزمات التي واجهتها وتداعياتها، بما في ذلك طبيعة الألغام التي ما زالت موجودة والمرشحة للانفجار في أية لحظة. وعلى الرغم من الوساطة التي تقوم بها الشقيقة الكويت -مسنودة من عُمان حسبما نظن- لنزع فتيل الأزمة الحالية والتوصّل إلى حلول توافقية، فإن الشكوك التاريخية -القريبة منها والبعيدة- قد تأخذ فترة طويلة لتجاوزها، وقد تعود مجددًا، في حال تبدّل الظروف الإقليمية والدولية، بسبب طبيعة بعض المشاكل الهيكلية الموجودة والأمراض التي أنتجتها.
ولمعالجة أي مرض مهما كان، عضويًا أو سياسيًا أو اقتصاديًا، لا بد بداية من الاعتراف بالمرض وإيجاد توصيف دقيق عما يعانيه المريض، لكي يتسنى للطبيب تشخيصه قبل إيجاد العلاج المناسب له، وقبل أن يقدر الطبيب تشخيص المرض عليه أن يُرسل المريض إلى مجموعة من الأطباء المهرة الآخرين؛ لإجراء الفحوصات المختلفة، وإذا يقال في الطب: إن تشخيص الأمراض نصف الطريق إلى علاجها؛ فإن القول نفسه ينطبق على “الأمراض السياسية والاجتماعية والاقتصادية”، ووسائل الفحص لا أول لها ولا آخر، منها: التحاليل المعملية، كيمياوية ومناعية وجينية، وهناك وسائل التصويرية بالأشعة تنفذ إلى كل موقع من الجسم، وهناك الدراسات الفسيولوجية والكهربية تختبر كل جزئية، وهناك المناظير الداخلية تخترق أعماق الجسم، وهناك تحاليل ودراسة الأنسجة لفكّ طلاسم التركيب البشري ذاته.
ويبدو واضحًا رغم كل الأزمات التي واجهتنا، وكل الاجتماعات التي عقدناها والتقارير التي كتبناها، وكل الاتفاقات التي وقعّنا عليها؛ إنها لم تسعفنا، والذي يعني وجود خطأ في التشخيص، وبالتالي وجود خطأ في العلاج، والذي يتطلب ضرورة إعادة الفحص بما يستجد من وسائل قادرة على الإحاطة بكل أبعاد واقعنا إذا كانت أرادة الشفاء وكذلك إرادة الصحة متوفرة، وعكس ذلك سنصل إلى محظور ضياع الفرصة، محظور استسلامنا لعملية نحر وتآكل لا نعرف إلى أين سوف توصلنا، محظور الاندفاع إلى الفوضى الشاملة ولفترة قد تطول، حتى تبرز قوة في الداخل تقدر على ضبط الأمور أو الأخطر تجيء من الخارج قوة تتولى هذه المهمة. وربما أن هذه الفوضى الشاملة قد تسحب -وفِي الغالب أنها سوف تسحب- زلازلا عنيفةً على شقوق وانفلاقات جاهزة للزلازل، وهذا هو أخطر الاحتمالات على أي مستقبل خليجي وسط كل الإمكانات الهائلة الزاحفة ونحن نقترب من العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
لا تزال الحدود بين أقطار دول الخليج، مسار قلقٍ وتوتر، ولَم تزل دول الخليج عاجزة حتى الآن من الوصول إلى حلول جذرية تبطل فتيل هذه القنابل الموقوتة التي تهدد بالانفجار في أية لحظة، وربما أن الاستثناء كان توقيع عُمان على اتفاقيات مع كل الدول التي لها حدود مشتركة، والتوقيع النهائي على اتفاقية الحدود بين سلطنة عُمان والجمهورية اليمنية في عام ١٩٩٢، ستظل ساطعة في الخليج وتاريخه، بوصفها شعاع أمل ونور وسط منطقة داكنة. لقد تصدت عمان لمسؤولياتها التاريخية والوطنية والقومية لتعطي للخليج وجه عُمان بأكمله بالحكمة والخبرة، وتلك الاتفاقية وغيرها أكّدت أن التوازن والاتزان والاعتدال والنظرة البعيدة التي رفعتها القيادة العمانية لم تكن ترفًا أو بذخًا فائضًا، إنما هي ضرورة حياتية تضمن الاستقرار والأمن والالتزام المتبادل بين عمان وجاراتها، وأثبتت أن الحلول ممكنة في ظل روح الإخوة والتسامح وبما يحفظ مصالح كل الأطراف ويصون أمنها واستقرارها، بدلا من أن تتحول هذه المشاكل إلى أزمات مزمنة، تعرقل مساعي التنمية وتهدد أجيالها المقبلة، ولعلّ الاستفادة من النموذج العُماني يجب أن يكون ماثلا أمام أي تحرّكٍ إيجابي لحل الخلافات وتجاوز العقبات بين الأشقاء.
لقد أصبحت دول الخليج حائرة في علاقات بعضها بالبعض الآخر، وحائرة أمام ما يحدث في العالم، وحائرة في كيفية حل تناقضاتها، لقد وصلت الخلافات الخليجية المختلفة – ومنها القضايا الحدودية العالقة وعدم الثقة – إلى درجات أدّت إلى قيام بعض الدول ببناء مزيد من دفاعاتها ضد أطرافٍ من المفترض أنها شريكة في مشروع النظام الخليجي، أطراف تتحدث عن التضامن ولا تعرف آلياته، وأطراف تتحدث عن الاتحاد ولا تدرك شروطه، وأطراف تتحدث عن التنمية ولا تملك مستلزماتها، وأطراف تتحدث عن حقوق لها وعليها ولا تعرف طرقها، أطراف تتحدث عن السلام وتجهل سبله، وأطراف تتحدث عن الحرب ولا تملك وسائلها، خليج يعيش في عالم اليوم ولا يعرف عن حقائقه.
ما شهده الخليج خلال السنوات الماضية كان عبارة عن ألعاب متشابكةً متضاربة، لم تنشئ نظامًا خليجيًا جديدًا، ولعلّها أنشأت حالة من الفوضى الخليجية متشابكة مع الفوضى العربية، ولا تعرف تقدير نتائجها أو حساب تفاعلاتها في حالة استمرارها، لا سيما أن المنطقة العربية وما يحيط بها ترتج بالزلازل وتفور بالبراكين وتختلط معها مواريث الإسلام بمؤثرات حضارية مختلفة عنه، إلى جانب قضايا هوية وثقافية وسياسية ومشكلات نموّ. وكثير من المناطق لعب فيها المال العربي -والخليجي تحديدا- دورًا يصعب فهمه، من الصومال، السودان، العراق، سوريا، ولبنان، وليبيا، تونس، اليمن، أفغانستان، وباكستان، وغيرها، وكل ذلك أدى إلى زيادة حدة المشاعر الدينية والطائفية والقبلية، وإلى تجارة غير مسبوقة في السلاح، وإلى تحويل المنطقة إلى أكبر مركز لتجارة المخدرات في العالم، وأحيانا تصور المال العربي والخليجي أن بناء بعض المساجد هنا وهناك كفيلٌ بإعطاء دور له. وباختصار فقد لعب المال الخليجي دورًا مهمًّا في كثير من المشاكل التي نواجها، وأصبحت رائحة الموت هي الرائحة التي تملأ أجواء كثير من المناطق المحيطة بالخليج، كما أصبحت الأعلام السوداء وصور الشهداء والقتلى هي أول ما يطالع العين في كثير من المناطق التي لعب فيها المال الخليجي دورًا.
أما في الشأن الداخلي لكل دولة؛ فإن معظم دول الخليج أخفقت في حلّ كثير من مشاكلها الداخلية، من الاقتصاد إلى التعليم إلى التدريب والاجتماع وإيجاد حلول لتوافد مجموعات مكثفة من العمالة الوافدة أو إيجاد وظائف للأجيال الجديدة للشبيبة الخليجية الداخلة إلى سوق العمل، في الوقت الذي كانت الموارد المالية تدخل خزائنها بطرق خيالية، فهل سوف تدرك الآن هشاشة أوضاعها بعد تراجع عائداتها من تصدير النفط وتنضيب الاحتياطيات -التي تكوّنت في وقت الفائض- لمواجهة عجوزات الموازنات العامة، التي تتفاقم لسد احتياجات الصرف على الباب الأول من النفقات العامة الخاصة برواتب وأجور موظفي الدولة، الذين أصبحوا فائضين عن الحاجة، وأصبحت الدوائر مترهلة أكثر من اللازم؟ وتتجلى خطورة الأوضاع الاقتصادية الراهنة على دول الخليج عندما تدرك هشاشة القاعدة الإنتاجية نتيجة الإخفاق في بناء قاعدة اقتصادية بديلة للنفط.
أصبح ضروريا لدول الخليج أن تتجاوز الأزمة بعقلية واضحة، وأن تحاول بكلّ الطرق الممكنة والواقعية أن تتجاوزها وأسبابها ونتائجها وآثارها؛ برؤية مختلفة، ووضع الأمور في نصابها، من المستحيل بناء مستقبل أو نظام جديد قائم على واقع هزيل وهش، وهذا يعني -ضمن أشياء أخرى- إيجاد نظرة مختلفة تماما، والبدء في إيجاد مؤسسات قوية وفاعلة في مختلف الحقول.